18 سبتمبر 2025

تسجيل

رياض قطر والارتباط الوجداني

02 مايو 2019

الروض جزء من التراث وتجد الاهتمام المستمر من الدولة التوسع التجاري والصناعي خطر يهدد الحياة البرية أهل قطر مرتبطون وجدانياً بالروض وهي مصدر إلهام لهم لقد ولدت هنا في هذا المكان، في هذه الرياض الجميلة في شمال قطر الأوسط، في سنة ربيع وخير على قطر. وها أنا اعود من حيث أتيت إلى هذه البساطة والطبيعة، بعد غياب طويل تخللته رحلة وصلت فيها الى الولايات المتحدة الامريكية قضيت فيها فترة ليست بالقصيرة من عمري طلباً للعلم، وحصلت فيها على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وعلوم الطيران، والآن اعود الى هذه البساطة والطبيعة والبيئة الجميلة التي ولدت بها هنا في بر شمال قطر. هذه الرياض مناظر طبيعية تسر الناظرين وتروح عنهم من ضغوط الحياة وضوضاء المدينة وتلوثها. وهي قبل ذلك موارد طبيعية كان يعيش عليها الناس في الماضي، وكانت تكفيهم وتكفي حلالهم من الماشية طوال العام. يخرجون إلى البر في فصل الشتاء والربيع في السنوات الماطرة، ويعودون للمدينة في فصل الصيف. هكذا كانت حياة أهل قطر في الماضي. في الشتاء في البر وفي الصيف على البحر، وعندما يعودون إلى المدينة في الصيف يوجد من يقوم برعاية حلالهم في البر سواء كانوا رعاة أو ناسا تقوم بذلك مقابل أجر، يودع عندها الحلال، وكانت تتركز حول الآبار وأماكن المياه. وكان المنبت والمرعى يكفيهم طوال العام – يأكله الحلال أخضر في فصلي الشتاء والربيع، ويأكله يابسا في فصل الصيف. وتعتبر رياض قطر من الموارد الطبيعية النادرة التي تتميز بها قطر على سائر مناطق الجزيرة العربية، وهي تحفة قطر وتاج البر القطري، ولا يوجد لرياض قطر مثيل في الجزيرة العربية قاطبة من حيث حجم سدرها ونوعيته. كما أن هذه الرياض تنبت أجود أنواع العشب كالقطيفي والنفل التي تعطي رائحة زكية من مسافات بعيدة وغير ذلك من مختلف الأعشاب والنباتات البرية الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها. والرياض عبارة عن منخفضات عملت السيول على جمع الترسبات الطينية بها عبر آلاف السنين، فهي أراض طينية خصبة تجتمع بها مياه الأمطار وتنبت السدر وغيرها من أشجار كالسمر والعوسج والغاف أحياناً بالإضافة إلى أنواع الأعشاب البرية المختلفة. وقد حافظ عليها الآباء والاجداد من العبث والتدمير، وارتبطوا بها وجدانياً، وهذا نوع من رد الجميل والمحافظة على الموارد الطبيعية التي يستفيد منها الانسان والحيوان بالإضافة إلى كونها مناظر طبيعية ومنارا للأرض، وهو أيضاً جزء أصيل من ثقافة وتراث أهل قطر وتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، فقد ارتبط أهل قطر بهذه الرياض ارتباطا وجدانيا عميقا، فقد كانت تضم حلالهم في الشتاء والصيف كمراع وتحميه من برد الشتاء والحر في الصيف، وكان الناس يحتمون بهذه السدر من البرد شتاء وحر الشمس صيفاً، والسدرة شجرة مباركة لها مكانة عظيمة عند أهل قطر، وهذا أيضاً موروث إسلامي، لأن شجرة السدر مذكورة في القرآن الكريم، وبها فوائد كثيرة، في ورقها وثمرها وزهرها، وهو ينتج أجود أنواع العسل، وقد ارتبطت حياة أهل قطر بالبر وبهذه الرياض ارتباطا مباشرا ومتواصلا، فقد كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية عندما يخرجون إلى البر في فصلي الشتاء والربيع – فكانوا يولدون فيها ويموتون فيها، بمعنى أنه يموت في البر ويدفن حيث مات، فكثيرا ما ترى القبور في الرياض. وكانوا يقيمون أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية فيها، فعلى سبيل المثال انا ولدت هنا في هذا المكان في روضة قريبة وكذلك والدي وأيضاً تزوج عمي هنا، وكذلك كثير من اهلنا واهل قطر السابقين تزوجوا وولدوا في البر في مثل هذه الرياض، هنا عاش الآباء والاجداد فترة ليست بالقصيرة من أعمارهم. ومن شدة حب أهل قطر للبر ولهذه الرياض واهتمامهم بها أطلقوا على كل واحدة منها اسما خاصا بها، ويساعدهم في التعرف على بر قطر، فجميع الرياض مسماة بأسماء متفق عليها وتم تناقلها من جيل الى اخر، وقد قامت الحكومة مشكورة بتعليمات من سمو الأمير الوالد، منذ فترة طويلة بتدوين هذه المسميات نقلا عن ذوي الخبرة من اهل قطر حفظا لها من الضياع والاندثار. والأسماء قد تعبر عن احداث وقعت في المكان أو عن وصف له ولجغرافيته، أو أسماء مرتبطة بأشخاص أو حيوانات أو نباتات. وقد ارتبطت هذه الرياض بالتراث وأصبحت جزءا من القصص والموروث الشعبي، ومن القصص والطرائف التي تروى هي وجود الجن ببعض الرياض والرياض المسكونة بالجن، والقصص في هذا المجال كثيرة، وبطبيعة الحال هذه من قصص التراث الشعبي ولا اعتقد ان لها أساسا في الواقع، ولكن ربما تأتي أيضاً في إطار الصراع على المراعي والموارد وإبعاد الناس عن بعض الأماكن والمراعي، وهو صراع انساني أزلي. ولكن هذه الرياض وبيئتها الطبيعية للأسف تقع تحت تهديد وجودي مستمر منذ عقود وعددها في تناقص بسبب طمع الانسان وجشعه وحب الحجز والتملك والاستحواذ والتوسع التجاري الرخيص غير المكلف كإقامة المشاريع الزراعية والمصانع والكسارات التي تتوسع أفقياً بشكل مفرط وتحدث دمارا هائلا للبيئة لتعظيم الأرباح بأقل تكلفة لمصالح شخصية، بالإضافة إلى الرعي الجائر وسوء معاملة واستغلال هذه الموارد الطبيعية. وهذه الرياض وبيئتها من القيعان والتربة المنبتة تعتبر من الموارد الطبيعية الناضبة غير المتجددة، وأي تدمير يلحق بها او تجريف او ضرر او اغلاق للأودية ومجاري المياه والمفائض التي تغذيها او تخريب لطبيعة وجغرافية الارض حولها يصعب تعويضه حتى بعد مئات السنين، لأنها ترسبات طينية وتشكيلات طبيعية تكونت عبر آلاف السنين. وقد حافظ عليها الآباء والأجداد من قبل جيلا بعد جيل. ونحن كذلك نغرس ذلك في أبنائنا ونربيهم عليه، فهي مرتبطة بتراث وتاريخ ووجدان أهل قطر. والقيادة في قطر تولي موضوع حماية البيئة أهمية كبيرة وتسعى للمحافظة عليها وعلى رياضها وتنميتها لما تمثله من موارد طبيعية نادرة وقيمة تاريخية وتراث مرتبط بالماضي وبحياة الأجداد، فهي تمثل تراثا وتاريخا وواجهة ثقافية تعبر عن قطر تاريخياً وثقافيا وجغرافياً، وهي احد المرتكزات الاساسية لرؤية قطر الوطنية، بالإضافة إلى ذلك فهي تشكل متنفساً للمواطنين والعامة يرتادونه في فصل الشتاء والربيع. ومع الحصار الجائر اصبحت قطر كما يقول حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى جزيرة، ولم يعد لأهل قطر من متنفس سوى ارضها الطيبة وبرها ورياضها الجميلة، وهي محدودة ومهددة وجوديا للعوامل التي ذكرتها آنفا، ولا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه بيئتنا الطبيعية وتتطلب تطويرا في نظام حمايتنا البيئة ليتواكب مع هذه التحديات. وقد ذكرت بعض المقترحات لتطويرها في مناسبات سابقة، ومثل هذه الطبيعة الخلابة «في أوقات الربيع» تشد الناس اليها الرحال إلى أوروبا وغيرها من أنحاء العالم، وهي موجودة عندنا في قلب بيئة شبه صحراوية جافة قاسية المناخ، فالأولى بِنا المحافظة عليها. وكما أني ولدت هنا فإني أعود إلى هذا المكان وإلى جذوري وإلى حيث ولدت، بعد غياب طويل تخللته رحلة طويلة إلى الولايات المتحدة، اغتربت فيها منذ تخرجي من الثانوية العامة في قطر وابتعاثي للدراسة هناك – بداية باللغة الإنجليزية ثم درجة البكالوريوس ثم علوم الطيران ثم الماجستير ثم الدكتوراة في الاقتصاد، ولكن ذلك كله لم يمنعني من العودة إلى جذوري. فكل هذا التحضر لم يغير مني شيئا، فعدت من حيث أتيت، فأصبح هذا المكان هو ملجئي الذي آنس به، وملاذي الذي ألوذ به من ضوضاء المدينة وزحمتها وضغوط الحياة. هذا المكان هو ملاذي الفكري الذي أجد فيه صفاء ذهنيا أستطيع معه التركيز على العمل البحثي والكتابة، وقد وجدت فيه فرصا للكتابة حول حصار قطر وغيره من الموضوعات، وحتى إنه قد أجريت معي هنا في هذه الروضة، روضة الغبيات، العديد من المقابلات حول حصار قطر: منها على سبيل المثال مقابلتان مع صحيفة لوموند الفرنسية، الأولى في أوائل عام 2018 حول الحرب الاقتصادية على قطر، والثانية مؤخراً حول تراث وحياة أهل قطر البرية، وعدة مقابلات مع قناة الجزيرة كان آخرها الشهر الماضي حول تراث وحياة أهل قطر البرية، بالاضافة إلى وكالة رويترز وقناة بي بي سي البريطانية وكذلك العديد من الصحف المحلية. أجد في هذا المكان فرصة للتفكير والتأمل والكتابة، أجد هدوءا وصفاء ذهنيا لا يعكره إلا زقزقة الطيور وصرير الرياح أحياناً، وبعض من يخالفون قوانين حماية البيئة من زوار الروضة أحياناً أخرى. وكثيراً ما يحضرني قول زهير في معلقته وأنا هنا في هذه الرياض الجميلة، ’’وفيهن ملهى للطيف ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم‘‘، وإن اختلف قصد الشاعر ولكني أجد في قوله هذا تعبيرا عما يجول بخاطري. واللطيف هو الأنيق حسن المنظر والشمائل المتلطف في الوصول إلى ما يصبو إليه، والمتوسم هو الطالب للحسن والوسامة، إنه لا يزال ارتباطا ولكنه من نوع آخر. إنه مزج للحاضر والمستقبل بالماضي، إنه ربط للحاضر بالماضي، والحداثة بالتراث، والتحضر بالبداوة. لقد أعطت هذه الرياض آباءنا وأجدادنا الكثير وما زالت تعطي، وهي تمنحني الآن الهدوء وصفاء الذهن وتشكل مصدر إلهام وإبداع لي يعينني على التفكير والتركيز والبحث والإنتاج الفكري.