15 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ الجمعة الأولى، والتظاهرة الأولى، ما كان للرصاص أن ينطلق ضد المواطنين، وما كان لسوريا أن تضع نفسها في هذا المركب الصعب، فها هي الآن في مجلس الأمن الدولي، ثم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تواجه التشهير قبل الإدانة، وربما قبل العقوبات والإجراءات الأخرى، صحيح أن الانقسام الدولي حال دون إصرار بيان ضد سوريا، لكن هذا لا يعني أي انتصار لها، فالعالم يراقب ويعرف تماما مخاطر انهيار النظام، إلا أنه لا يصدق أن هذا النظام لا يستطيع شيئا غير القمع المنهجي. حتى الدول التي رفضت بوضوح التدخل في الوضع السوري، مثل روسيا، لم تتردد في حث دمشق على إظهار اعتراف بأن لديها مشكلة داخلية، فالاعتراف مقدمة للمعالجة، والمعالجة يجب أن تأخذ في الاعتبار مطالب المحتجين لا أن تلتف عليها، ولأجل ذلك يفترض أن يكون النظام مؤهلا بالآليات الدستورية والقانونية التي تمكنه من مقاربة طموحات المجتمع بروح سياسية منزهة من انفلاتات الأجهزة الأمنية، خصوصا أن هذه الأخيرة مضى عليها دهر من دون أن يعترضها أو يحاسبها أحد، ومن دون أن يخضعها أحد للقوانين ولموجبات احترام المواطنين. تعتبر تركيا حاليا الجهة الأكثر قربا ومعرفة بحقائق ما يجري في سوريا، وهي ما انفكت توجه النصائح والتحذيرات واللوم بلهجات متفاوتة يفهم منها أن المشكلة ليست في الاحتجاجات وإنما في الإدارة السيئة للأزمة من جانب النظام، أحد المصادر التركية قال إن لدى دمشق "معضلة مؤسساتية"، وأشار آخر إلى أن لديها مشكلة مزمنة مع "المصداقية" و"الشفافية" تجعل كل الروايات الرسمية مشكوكا بها، حتى لو كانت هناك جوانب حقيقية في تلك الروايات، فعلى سبيل المثال استندت السلطة في قرارها إقفال درعا وعزلها عن العالم، إلى وجود خلايا مسلحين متطرفين دينيا، غير أن التباس الروايات وتداخلها بشأن ما يحصل فعلا على الأرض حال دون تصديق ذرائع السلطة فظلت الحملة على درعا في نظر الداخل والخارج مستهدفة الانتقام من المدينة التي أطلقت شرارة الاحتجاجات وجعلها عبرة للمدن الأخرى. في أي حال، شكل خروج الآلاف للتظاهر يوم الجمعة الماضي إصراراً شعبياً على أن حركة الاحتجاج غير المسلح والسلمي هي الأساس، وينبغي ألا تموّه أو تطمس بحوادث جانبية، هذا إذا صحت أصلا رواية الخلايا المسلحة، فهذه الحركة هي التحدي الحقيقي الذي يفترض أن يواجهه النظام سعيا إلى مصالحة مع الشعب، ومثل هذه المصالحة وحده يمكن أن يعزل أي متطرفين يريدون بدورهم أن يحرفوا حركة الاحتجاج عن مسارها، ويلاحظ أنه في الأسابيع الأولى للتظاهر لم تتطرق الشعارات إلى مسألة "إسقاط النظام" وبعد تكرار القتل والاعتقالات ومن ثم الإقدام على عزل درعا وقطع الماء والكهرباء والخدمات الأساسية وحتى الإغاثة عنها بدا من الطبيعي أن يرفض المواطنون هذا النظام، فهو يقتل ليعيد الخوف والصمت إلى النفوس، لكن السوريين لا يريدون العودة إلى الوراء. بعد صدور المراسيم التي ترفع حال الطوارئ، وتعطل محكمة أمن الدولة وتنظم التظاهر عشية الجمعة 22 أبريل لم يكن للسلطة أن نتوقع التوقف التلقائي لحركة الاحتجاج، لكن كان عليها أن تراهن على ضبط النفس لدى أجهزتها لتمرير تلك الجمعة من دون سفك دماء، ولو فعلت لكانت أعطت مواطنيها انطباعا جديا بأنها تدشن مرحلة جديدة، وبأنه باتت لديها أوامر مختلفة غير طوارئية" للتعامل معهم، وإذ غلب الطبع التطبع لم يكن متوقعا أن يمنح المواطنون ثقتهم لمجرد أن هناك ورقة تعلن رفع حال الطوارئ التي كان يجب أن ترفع منذ زمن، ومادامت قد رفعت الآن فإن مصداقيتها تتأكد بالممارسة، تحديدا بكف اليد الغليظة التي تجيز للأمن أن يبطش كيفما يشاء. تطبيقاً لأحد تلك المراسيم أصدرت وزارة الداخلية تعميما يطالب المواطنين بعدم التظاهر والاعتصام إلا بعد الحصول على تراخيص، نظرياً، بدا هذا التعميم مشروعا وبديهيا، إلا أن الطرفين الحكومي والشعبي يدركان أنه غير واقعي، لماذا؟ نبدأ أولاً بالظروف، فهذه الاحتجاجات ما كانت لتحصل يوما لو أنها انتظرت ترخيصا، ثم إن "تنظيم" التظاهر في أوضاع طبيعية يهدف عادة إلى إتاحة الفرصة لقطاع معين للدفاع عن حقوقه، لكن الشعب يتظاهر مطالبا بالحرية والكرامة والعدل، نأتي ثانيا إلى الإجراءات وفقا لأحد النشطاء الذي فندها كالآتي: على افتراض أن شخصا قصد الدائرة المختصة ليتقدم بطلب ترخيص للتظاهر، فليس مؤكداً أنه سيعود إلى بيته سالما معافى، بل سيخضع لتحقيق له أول وليس له آخر، وقد يطلب منه وضع لائحة بأسماء المرشحين للمشاركة في التظاهرة، ولابد أن هؤلاء سيتلقون زيارات عند الفجر لاستجوابهم أيضا، وإذا كان عدد من النشطاء المعروفين اختفوا بعدما طرحوا أنفسهم كوسطاء مع السلطة، فهل يعقل أن يتقدم احد لطلب ترخيص للتظاهر. تؤكد مصادر قريبة من النظام انه يعتزم القيام بإصلاحات متقدمة، لكنه لن يتحرك تحت وطأة الضغوط، ولا يريد أن يظهر ضعيفا، أي أنه يتطلع إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها قبل اتخاذ أي خطوات إصلاحية، وإذ يحاول وقف الاحتجاجات بالقوة فإنه يفرق أكثر فأكثر في دوامتها، كان هذا السيناريو جرب سابقا في تونس ومصر واليمن ولم يبدو مجديا، ذلك أن الثقة بين النظام والشعب تكون موجودة أو معدومة، وهذه في الحالين مسؤولية النظام. تتساوى العواصم الناقدة والمسايرة لدمشق في أنها تفضل بقاء النظام، وفي أن بقاءه يتطلب منه إصلاحات حقيقية ملموسة لكن في غياب القدرة على إحداث تغيير داخلي ذي مغزى، باتت الدول القريبة والبعيدة تتخوف من اندفاع النظام إلى تصدير مأزقه إلى خارج الحدود، خصوصا إلى لبنان، إما بذريعة المؤامرة أو سعيا إلى صرف الأضواء المسلطة على الداخل السوري، وهذا ما يعود أن المشاورات المعمقة، التركية-الأمريكية، اهتمت به الأسبوع الماضي ثم إن أنقرة أرسلت وفدا إلى دمشق برئاسة مدير الاستخبارات الذي حمل وفقا لبعض المصادر، تطمينات وتحذيرات، الأولى تشرح أن القوى الدولية والإقليمية تريد الاستمرار في الاعتماد على النظام السوري إذا أظهر بدوره إرادة لمعالجة داخلية فاعلة للأزمة، وإذا أقلع عن استخدام العنف، أما الثانية فتحمله مسؤولية أي أحداث مفتعلة في دول الجوار، لا شيء يجبر النظام على العمل بالنصائح، لكنه هذه المرة سيغامر بخسارة العلاقة الوثيقة التي أقامها مع تركيا، إذاً، فالخيار خياره.