23 سبتمبر 2025
تسجيلبين العامين 1978 و1990 راحت القمم العربية تنعقد فيما يكون مقعد مصر خالياً، تسبب الصلح المنفرد مع إسرائيل بصدمة قاسية، ثم بجراحة اقتلعت الجامعة العربية من مقرها في قلب القاهرة ونقلته إلى تونس، أخرجت مصر من الجامعة في قمة بغداد قبل أربعة وثلاثين عاماً، وما لبث الغزو العراقي للكويت عام 1990 أن أعادها إليها حين انعقدت قمة للموافقة على التدخل الدولي من أجل تحرير بلد عربي من احتلال قام به بلد عربي آخر. في ذلك العام كانت صدمة الغزو العراقي أكثر قسوة على العالم العربي، إذ أشاعت التشكيك العميق في أي تضامن أو ارتباط بين العرب. حاول صدام حسين أن يسوّق فعلته مدعياً أن "تحرير فلسطين" هو أحد دوافع احتلاله للكويت، وبذلك أراد بث الانقسام في الصف العربي، لكن النتيجة الفعلية ظهرت فور انتهاء حرب تحرير الكويت أواخر فبراير 1991 عندما أعلنت الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الأب أن "الوقت حان" لعقد سلام بين العرب وإسرائيل، وقد عني ذلك أن واشنطن وسواها في الغرب استنتجت أن "النظام العربي الرسمي" تلقى ضربة قصمت ظهره، وبالتالي فلابد من هذا "السلام" لإقامة توازن جديد في الشرق الأوسط. طوال العقدين المنصرمين بقي ذاك "النظام العربي" في حال مراوحة بين موت وحياة ومحاولات إنعاش لم تكن دائما مجدية، أولاً، لأن إسرائيل بددت حلم السلام، وساعدتها الولايات المتحدة في ذلك من خلال تفاهمهما على معايير "السلام الممكن" مع الفلسطينيين أي السلام الذي يبقى على هيمنة الاحتلال. أما الأمر الآخر فتمثل بالغزو والاحتلال الأمريكيين للعراق بقصد تغيير نظام صدام حسين، وإذ توصلا إلى تحقيق الهدف إلا أن سلطة الاحتلال الأمريكي ارتكبت أفظع الأخطاء في إدارة البلاد حين حلّت مؤسسات الدولة والجيش والأمن، وبالتالي أدخلت العراق في أتون انقساماته الطائفية والمذهبية والعرقية والسياسية، وتفيد السوابق التاريخية أنه عندما يكون أي بلد عربي مريضا وغارقا في الاضطرابات فإن ذلك ينعكس بشكل أو بآخر على سائر أعضاء الجسم العربي. لم يكن العراق وحده مريضاً، ولم يكن "العلاج" الأمريكي هو الأنجع، إذ ما لبثت التوازن والانتفاضات الشعبية أن كشفت عورات أنظمة أخرى. ومنذ مطلع العام 2011 دخل العالم العربي في مرحلة تحولات يتوقع لها أن تطول قبل أن تتوصل الدول، على اختلافها، إلى استقرار في الحكم والاقتصاد والعلاقات بين مكوّنات المجتمع، وقد أعادت هذه المرحلة تسليط الأضواء على الكيان أو الإطار المسمى "جامعة الدول العربية"، في تصور استشرافي للحاجة المتجددة إليها لدورها، ولما يجب أن تكون عليه، وخلال هذا العام المضطرب، كان موقف الجامعة أساسياً في تمكين ليبيا من إنهاء الحكم الاستبدادي، إلا أنها لم تتمكن من التأثير الحاسم في الأزمة رغم أنها حاولت بكل الوسائل، قبل أن تضطر إلى اللجوء إلى "التدويل" استناداً إلى هدف أساسي هو "وقف العنف والقتل" من أجل حماية المدنيين. هذه التجربة غير المسبوقة، على خلفية الحراك الشعبي غير المسبوق أيضاً، وضعت الجامعة أمام حتمية تطوير مفاهيمها وآليات عملها باعتبار أن التغيير الحاصل سيجعلها مدعوة للعمل بطريقة مختلفة وفي ضوء فلسفة جديدة للعمل العربي المشترك، قبل ذلك، طرحت مسألة إصلاح الجامعة خلال الأعوام السابقة، إلا أن الأنظمة والدول الأعضاء فيها لم تبدأ مستعجلة لإنجاز هذه المهمة الحيوية، أما الآن فتبدو العقول والقلوب وقد تغيرت، وبناء على ذلك، أمكن للأمين العام للجامعة أن يضع إعادة هيكلة الجامعة في صلب جدول أعمال قمة بغداد، جنبا إلى جنب مع القضايا الساخنة، ولم تبرز حتى الآن اعتراضات جوهرية على الاقتراحات الأولية التي طرحت لـ"إعادة الهيكلة" فإذا كان لـ"نظام عربي رسمي" جديد أن يظهر فلابد أن تتمكن الجامعة من بلورته وتجسيده. تتحدث الاقتراحات خصوصاً عن "المجلس القومي للأمن والسلم" الذي سبق أن أقر إنشاؤه ولم تتح له الفرصة كي يولد ويعمل، وقد رأت "لجنة الحكماء" العرب التي كلفها الأمين العام درس أوضاع الجامعة وآفاق تطويرها أن يعهد إلى المجلس الوزاري العربي بمهمات "مجلس الأمن والسلم" وأشير أيضا إلى "خلية الأزمات" التي ثبتت الحاجة إليها في المرحلة الراهنة، كما لاحظت اللجنة أن الجامعة تشتمل على العديد من المنظمات ذات الاختصاص والخبرة إلا أنها افتقدت التفعيل وعانت من التعطيل. وسيعتمد تنشيط الجامعة وترشيد دورها على استعداد الحكومات كافة لمدها بالصلاحيات، وعلى مدى التزامها ما يتفق عليه في إطار الخطط التي يضعها خبراؤها. ولاشك أن هذا التجديد للجامعة سيشكل أيضاً فرصة لاعتماد قيم الدولة الحديثة ومعاييرها، وبالأخص احترام القانون وحقوق الإنسان وتبني قيم المواطنة والحرية، فحين تصبح هذه المسائل أساساً للأنظمة الناشئة والمنبثقة من الانتفاضات الشعبية، لابد لسائر الأنظمة من التكيف معها طالما أنها ثمرة تغيير شاركت فيه الشعوب بفئاتها كافة. وفي صلب هذه القيم ستبقى القضية الفلسطينية محورية لأنها تمثل بالنسبة إلى العرب خلاصة النضال من أجل الكرامة ورفع الظلم التاريخي الذي لحق بأحد شعوبهم وكان سببا مباشرا للتوتر الدائم الذي يعيش فيه الشرق الأوسط وثمة من يعتقد أن ما تلعبه الولايات المتحدة من خلال دعمها لـ"الربيع العربي" هو أولاً وأخيراً ضمان مصلحة إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية من خلال ابتزاز الأنظمة الجديدة باقتصادها واستقرارها. لن يكتمل أي إصلاح للجامعة العربية من دون التوصل في نهاية المطاف إلى ميثاق جديد لها، ميثاق يعي التحديات الراهنة والمقبلة، ليس فقط في المجال السياسي وإنما على المستويين الاقتصادي والثقافي، قد نكون شهدنا في قمة بغداد إرهاصاً لنظام عربي رسمي جديد، وهو بدوره يحتاج في تخلفه إلى الوقت، وعلى وتيرة الحراكات والتغيرات والإصلاحات.