10 سبتمبر 2025

تسجيل

رئيس مدى الحياة

02 مارس 2019

بالنسبة له، هو الشخص الوحيد الذي باستطاعته قيادة البلاد والعباد نظرا لخبرته ودهائه وذكائه وتجربته وتاريخه وحنكته وعدالته واهتمامه بكل كبيرة وصغيرة في المجتمع. اهتمامه بالفقراء والمساكين جعل منه الأب الروحي للأمة. لا يوجد في البلاد شخص غيره يتولى القيادة والرئاسة هكذا يظن ويفكر ويستنتج والحاشية المحيطة به من سياسيين ورجال أعمال ومثقفين وأساتذة وجامعيين يثنون علية ويمدحونه ويؤكدون له أنه العظيم والأحسن والأفضل للأمة. يترجونه بعد نهاية كل عهدة أن يوافق على الترشح لعهدة جديدة من أجل الاستمرارية وإكمال المشاريع العظيمة والكبيرة. يوهمونه أنه لا أحد غيره يستطيع إنقاذ الأمة من المشاكل التي تحيط بها من كل صوب. نعم هذا هو الوضع في العديد من دول العالم الثالث التي تفصل الدساتير والقوانين على مقاس رؤساء يتم استخدامهم واستغلالهم من محترفي النفاق وصناع الرؤساء. هذه النوعية من الطفيليين هدفها هو النهب والسرقة والتلاعب بأموال الأمة من اجل مصلحتهم الخاصة، في هذه الأنظمة الكل يسبح بحمد الرئيس العظيم منقذ البلاد والعباد، المشرع والفيلسوف والداهية صاحب المشاريع الكبرى والبرامج الاستراتيجية والحيوية. الإعلام في هذه الأنظمة سواء كان خاصا أم حكوميا أم مستقلا أم سميه كما شئت يسبح ويمدح ويمجد الإنجازات العظيمة والكبيرة ويتكلم عن المشاريع الضخمة وعن الوحدات السكنية التي وزعت على المواطنين. هذه الأنظمة تعيش نفاقا اجتماعيا لا مثيل له، لأن ما تتداوله وسائل الإعلام والقنوات الاتصالية المختلفة شيء والواقع شيء آخر. ظاهرة رئيس "مدى الحياة" غرست الأنا المتورم في شخصية الرئيس وجعلته يؤمن إيمانا راسخا أن الشعب عن بكرة أبيه يحبه وان الجميع يقدر تضحياته من أجل استتباب المن والأمان والطمأنينة في البلاد. الرئيس "مدى الحياة" يتفنن من خلال الحاشية المحيطة به بتعديل وتفصيل الدستور على مقاسه وإذا كانت هناك مادة في الدستور تحدد عدد تولي الرئاسة في ولايتين فإن حاجة البلاد للرئيس تتوجب تعديل الدستور وإلغاء أو تحويرها حتى يفصل الدستور على مقاس الرئيس ويستطيع بذلك أن يحكم البلاد مدى الحياة لأنه بحاجة إلى وقت أطول "للاستمرارية" و"استكمال المشاريع الضخمة". في يوم الجمعة 22 فبراير الماضي فاجأ الشارع الجزائري الرئيس "مدى الحياة" وحاشيته بمسيرات سلمية في العديد من الولايات والمدن الجزائرية. الرسالة كانت واضحة مفادها لا لعهدة خامسة. فبعد عشرين سنة من الحكم ونظرا لظروف صحية قاهرة لا تسمح للرئيس قانونيا ودستوريا أن يترشح للاستحقاقات الرئاسية ولا تسمح له بقيادة بلاد بحجم الجزائر وهو لا يقدر على الكلام وعلى الحركة. ففي رئاسية 2014 ترشح الرئيس "مدى الحياة" للرئاسيات وهو غير مؤهل صحيا للمنصب ورغم ذلك استطاعت حاشية الانتهازيين والوصوليين من فرضه بطريقة أو بأخرى على الشعب الجزائري. فمنذ 2013 وبعد وعكة صحية حادة لم يخاطب الرئيس "مدى الحياة" الشعب الجزائري فما بالك باستقبال الرؤساء والسياسيين والوفود الرسمية. هذه الوضعية فُرضت على الشعب الجزائري في غياب معارضة قوية وأحزاب سياسية قوية تكون بمثابة المراقب والفيصل في القضايا الجوهرية للأمة. الفراغ السياسي في الجزائر فسح المجال واسعا أمام حاشية الرئيس "مدى الحياة" بالتلاعب بمصير الأمة وتجاهل القضايا الحساسة في المجتمع الجزائري كالبطالة وقوارب الموت وقضايا الكوكايين والمخدرات وقضية سوناطراك والخليفة والطريق السيار وغيرها من قضايا الفساد. خروج طلبة الجامعات في عدة ولايات وكذلك خروج المحامين والصحفيين وكذلك شخصيات تاريخية وسياسية يعطي مؤشر قوي أن الشارع في الجزائر هذه المرة قرر أن يحدد مصيره بيده وأن يقول لا لاستمرارية الفساد ولاستمرارية رئيس "مدى الحياة". مع السف الشديد جاءت بعض ردود السلطة منافية للمنطق والعقل وضاربة عرض الحائط إرادة الشعب. كيف نفسر رد رئيس الوزراء بالقول إن في سوريا "بدأت بالورود وانتهت بالدم"، أو رد قائد الأركان بقوله أنه لا يجب أن نعطي المجال لقوى خارجية تتلاعب بشبابنا. المسيرات السلمية جاءت كرد فعل طبيعي ومنطقي وواع لشارع صبر كثيرا وقرر أخيرا أنه غير مستعد لعهدة خامسة ولخمس سنوات قادمة يحكمه رئيس مقعد على كرسي لا يقدر على الكلام والحركة. ما يحدث هذه الأيام في الجزائر هو سلوك سياسي حضاري لشارع لم يجد لا في السلطة ولا في المعارضة ولا في النخبة المثقفة من يضع حد للاستهتار به والاستخفاف بذكائه ومن يضع حد لسنوات من الفساد والتلاعب بأموال الشعب. رئيس "مدى الحياة" موجود منذ الأحد الماضي في سويسرا للعلاج وهو مرشح فوق العادة لعهدة خامسة. كان من المفروض أن يتواجد في أرض الوطن والتحضير لحملته الانتخابية وتقديم ملفه للمجلس الدستوري يوم الأحد 3 مارس. فالمنطق السياسي والديمقراطي يقول لعقلاء الجزائر أن السلطة الحقيقية هي سلطة الشعب وأن إرادة الشعب يجب أن تُحترم. كما يفرض المنطق على عقلاء الجزائر وعلى من يحب الجزائر ومن يحب الرئيس "مدى الحياة" أن يتم الرفق به واحترامه وعدم استغلاله من قبل حاشية انتهازية لتحقيق مصالح ضيقة على حساب بلد بكامله. فمستقبل الجزائر تحدده عملية التناوب على السلطة وعملية احترام الرأي العام وعملية الممارسة الديمقراطية النزيهة وليس عملية فرض رئيس لم يخاطب شعبة منذ 7 سنوات وفي أخر كلمة له في 5 مايو 2012 صرح بأنه حان الأوان لتقديم المشعل لجيل الشباب. ما يمليه المنطق على كل جزائري غيور على بلده ومؤمن بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية أن مرحلة رئيس "مدى الحياة" قد ولت وحان الأوان لرئيس يستوفي الشروط التي حددها الدستور ويحظى بثقة الشارع الجزائري وليعلم الجميع أن الجزائر تزخر بشخصيات تتمتع بالنزاهة وبالكفاءة وبالمسؤولية لقيادة البلاد والعباد. [email protected]