29 أكتوبر 2025

تسجيل

من "حداثة الهولوكوست" إلى "إسلاموية داعش" (1)

02 مارس 2015

قدم زيجمونت باومان في كتابه الشهير "الحداثة والهولوكوست" (Modernity and the Holocaust) عام 1989 أي سنة صدور كتابه الصادم، أطروحة جديدة ومفاجئة عن العلاقة العضوية بين مشروع الحداثة والهولوكوست. يُترجم الكتاب للمرة الأولى إلى العربية وينقله إليها حجاج أبو جبر ودينا رمضان (مدارات للأبحاث والنشر، 2014). تصفح الكتاب بترجمته العربية الجيدة يتيح مناسبة لمناقشة الموضوع القديم الجديد، لكن على ضوء تجربتنا العربية (الإسلاموية) مع داعش. في كلا الحالتين: "الحداثة النازية المتطرفة" و"الإسلاموية المتطرفة" هناك نزعة إبادة ممنهجة تقوم على خطابات تأسيسية، وعلى نظرة استئصالية للآخر، وكذلك على آليات مُبهرة في تنفيذ الجريمة. لكن في ذات الوقت هناك اختلافات مهمة وأساسية تستدعي النقاش وتفتحه على تأملات جديدة، خاصة في مسألة الإعلام عن الجريمة أو محاولة إخفائها. هذه المقاربة (في مقالتين) تناقش إلى عدة أفكار حول التشابه والاختلاف بين الحالتين المذكورتين، وتحديداً: هناك أولا معالم الخطاب التأسيسي والإبادي، ثم التأمل في بشاعة نهج الجرائم الناجمة عن الالتزام بالنظام (والأيديولوجيا) والفائضة عن بشاعة تلك الجرائم الناتجة عن كسر النظام أو التمرد على الأيديولوجيا، وهناك تموضع "الجريمة والبشاعة" في إطار "ما هو عادي ومقبول" عند أفراد وجماعات ومجتمعات بشكل مذهل ومخيف، ويشير إلى أن الأفراد العاديين قد يتحولون إلى مجرمين حقيقيين، إذا تهيأ الظرف والسياق، وترتبط بذلك مسألة البعد أو القرب الفيزيائي من الضحية، حيث يلعب البعد دورا أساسيا في جرائم النازية، بينما يلعب القرب الدور الأكبر في الجرائم الداعشية، وهكذا. قبل البدء بالنقاش ثمة ملاحظة تفرض نفسها تتعلق بالترجمة العربية، فإلاشادة المُستحقة للترجمة الدقيقة والسلسة لكتاب باومان لا تنطبق على مقدمة الناشر ولا مقدمة المترجم اللتين فاضتا بالتعميمات غير اللازمة. الناشر يقول لنا إن "الصهيونية ارتكبت جرائم أبشع ضد العرب في فلسطين"، وهذه مقولة لا تخدم لا عرب فلسطين ولا تعزز من حقهم فيها، لأنها غير علمية وغير موضوعية (مقارنة بملايين اليهود الذين أبيدوا دفعة واحدة على يد هتلر). ثم يختم الناشر مقدمته بدعاء (موضوعي!) يبتهل فيه إلى الله أن يجعل الكتاب "في ميزان حسناتنا وأن ينفع به عموم المسلمين"!. هل معنى ذلك أن عموم المسيحيين أو غير المسلمين من قراء العربية لا ينطبق عليهم أمل الانتفاع من الكتاب؟ والمُترجم بدوره يشير وفي أول سطر من مقدمته إلى أن عبد الوهاب المسيري هو "أول من فطن إلى أهمية كتاب "الحداثة والهولوكوست للمفكر اليهودي المعاصر زيجمونت باومان"، وهذا طبعا ليس صحيحا ولا دقيقا ولا حاجة أصلا لمثل البذخ في المديح. ويُضاف إلى ذلك تعزيز الفكرة الساذجة بتبرئة الذات التاريخية وإحالة الجرائم على "الآخر" الإمبريالي، والتاريخ العربي الإسلامي فيه إمبرياليته الخاصة به أيضا. على كل حال، لا تنتقص هذه الزوائد من قيمة الترجمة العربية وأهميتها والإشارة إليها. قبل باومان صدرت مئات الكتب والأبحاث التي حاولت فهم المحرقة من ذلك المنظور تحديداً، ومن مناظير أخرى، أهمها كيفية قبول الألمان، سواء على مستوى الشعب أم النخبة، لفكرة إبادة جنس عرقي كامل يعيش بين ظهرانيهم. باومان ذهب في كتابه إلى مكان آخر تماماً وقلب كل المناظير، وإن كان بتطرف لافت انتقد عليه كثيراً، لكن بقيت نظريته ذات فائدة مهمة. عوض أن نوظف السوسيولوجيا ونظريات الحداثة لمحاولة فهم المحرقة ولماذا حدثت وكيف تواطأت الأطراف المختلفة في تنفيذها، قال باومان إن الهولوكوست تقدم لنا فرصة لنعيد فهم الحداثة من منظور قدرتها على تهيئة المناخ للإبادات البشرية. أي أن الهولوكوست تكشف بشاعة الحداثة على عكس كل القراءات السابقة التي أرادت أن تفهم بشاعة الهولوكوست من خلال الحداثة. بالنسبة لباومان فإن الحداثة تقوم على العقلانية الصارمة والتنظيم الدقيق وبرود التحليل العلمي وأخلاقية التكنولوجيا، وكل ذلك مجموعا إلى ذاته يحقق غائية وجود الإنسان ومصالحه. في هذا النظام تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مركبة ومدهشة وأبعد بكثير عن الفكرة الميكافيلية التقليدية التي تعلي من قدر الغاية وتبرر في سبيل تحقيقها أحقر الوسائل. هنا تصبح الوسيلة نفسها هي الغاية، أي أن مهارة تطبيق الأوامر، وكفاءة التنفيذ (تنفيذ حرق اليهود مثلاً) ومن خلال مراحل تبدأ بالترحيل في القطارات في مواعيد ثابتة، ثم تجميعهم في مرحلة الفحص الطبي، ثم التعرية الكاملة ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية وتصنيفها (ساعات، مجوهرات، ملابس،... إلخ)، ثم نقلهم إلى غرف الغاز وغسلهم بالماء أولا، وبعدها تحديد كمية الغاز المطلوبة لكل غرفة، والبدء بالتنفيذ، ثم تجميع الجثث وحرقها، ودفن بقاياها، وهكذا. هذا التفسير الأقصوي في فهم الحداثة هو ما اعتمده باومان، ورأى أنه تجسد في النظرية النازية التي رأت أن اليهود في ألمانيا وأوروبا لاحقا جنس يشكل عبئا على التقدم الإنساني وتجب إبادته، ومعهم المسلمون والغجر والمعاقون والمرضى أمراضا عصية و"الشاذون جنسيا"، بحسب ما كان يرى هتلر. قائمة الأجناس "غير المفيدة" كانت طويلة على الأجندة الهتلرية، ويتوجب تطهير "الحيز الحيوي" منها حتى يتقدم العالم بقيادة الجنس الآري الذي أثبت علماء الأنثروبولوجيا النازية لهتلر أنه الجنس الأصفى والأرقى في الأجناس البشرية كلها. في المقالة القادمة نقرأ "الداعشية" في ضوء فكر الإبادة.