15 سبتمبر 2025

تسجيل

في عولمة الاتصال والإعلام والثقافة

02 مارس 2013

ارتبط تطور البشرية وازدهارها ارتباطا وثيقا بوسائل وقنوات الاتصال التي استعملها الإنسان وتفاعل معها عبر العصور والأزمنة. فقد تأثر تاريخ الحضارة تأثرا كبيرا بالاتصال. ففي كل مرحلة كان يستعمل فيها الإنسان وسيلة اتصال جديدة كان يترتب عليها احتكار للمعرفة ومن ثم السلطة. وهكذا عرف الإنسان البردي ثم الورق ثم الطباعة ثم اخترع التلغراف ثم التليفون، ثم جاء عهد الإذاعة ثم التلفزيون وبعدها جاء عهد الثورة الاتصالية بمفهومها الحقيقي والكامل وذلك باستعمال الحاسوب الآلي، والأقمار الصناعية والفاكس واستعمل الإنسان أكثر من وسيلة لتخزين المعلومات ومعالجتها وإرسالها عبر الأقمار الصناعية في ثوان معدودة. فإذا كان آخر القرن الثامن عشر يسمى بـ"الثورة الصناعية الأولى" وآخر القرن التاسع عشر أطلق عليه اسم "الثورة الصناعية الثانية" فإن الربع الأخير من القرن العشرين أصبح يعرف بـ "الثورة الاتصالية". والثورة الاتصالية في الحقيقية لم تأت هكذا فجأة وإنما تعود جذورها وإرهاصاتها الأولى إلى مطلع القرن العشرين. والثورة الاتصالية بمفهومها الحديث ستؤثر لا محال في المعرفة وحجمها وقنوات توزيعها والسيطرة عليها. والصراع العالمي الذي ستشهده البشرية في القرن الحادي والعشرين سيكون صراعا حول من يملك المعلومة ويسيطر على صناعة الصورة وصناعة الرأي العام وصناعة المعرفة . ففي الواقع جاءت الثورة الاتصالية لتكرس تفوق الشمال على الجنوب ولتزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور ما يسمى بالصناعات الثقافية هذه الصناعات التي غمرت العالم بإنتاجها وأدت بذلك إلى توحيد الرؤية والفكر حسب المعطيات والمبادئ والقيم التي يفرضها صاحب السلطة والجاه والمال. والإشكالية المطروحة في الثورة الاتصالية هي أن الدول الصغيرة والفقيرة قد قدمت على شراء التكنولوجية والوسائل والقنوات لتواكب التطور، لكنها عجزت عن إنتاج المعرفة والمادة الإعلامية التي توزع عبر هذه الوسائط التكنولوجية، وهكذا فإنها وجدت نفسها مضطرة على اقتناء البرمجيات والمادة –الرسالة والمحتوى- التي تبث وتوزع عبر الوسائل والتكنولوجيات المختلفة. والتناقض المطروح هنا هو أن هذه البرمجيات وهذه المادة التي تقبل معظم الدول في العالم على اقتنائها من حفنة من الشركات العالمية لإنتاج البرامج تحمل في طياتها قيما ومبادئا قد تتنافى وتتعارض مع قيم معظم الدول في العالم، وهذه السيطرة على الإنتاج تؤدي كذلك إلى عولمة الإعلام وعولمة الثقافة وتؤدي إلى السيطرة على الرؤى والقيم والمبادئ. فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور فضاء إعلامي عالمي عابر للدول والقارات سواء عن طريق البث الفضائي المباشر أو الانترنت، وهذا ما أدى إلى عولمة الإعلام والثقافة التي تعتر نتيجة حتمية للثورة الاتصالية وللتطور المذهل في وسائل الاتصال والنقص الكبير في الإنتاج الإعلامي والثقافي على مستوى كل دولة. وبهذا تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على إنتاج الثقافة الأحادية والموحدة التي تهيمن وتسيطر على معظم القنوات التلفزيونية العالمية. وأصبح صانع ومنتج الرسالة والصورة في المجال الإعلامي والثقافي يفكر في سوق عالمية وليس في سوق محلية لكن هذا لا ينفي أنه يفكر بقيم ومعتقدات وبأفكار وأيديولوجية لا تخرج عن الإطار المرجعي لثقافته وبيئته ومجتمعه. وهذه المعادلة تؤدي من دون شك إلى تبعية معظم دول العالم وشعوبها إلى الحفنة القليلة من الدول التي تنتج ما يبث عبر تلفزيونات العالم وباقي الوسائط الإعلامية المختلفة. والإشكالية الأخرى المطروحة هنا فيما يتعلق بالثورة الاتصالية والعولمة الثقافية هي إن الشركات متعددة الجنسيات التي تسيطر على الإنتاج السمعي البصري على المستوى العالمي هي مؤسسات تحكمها المادة والربح والأيديولوجية، وهكذا نلاحظ ظهور البارونات في هذا الميدان أمثال "تاد ترنر" و "روبرت موردوك،" و "روبر هيرسان" وتجمعات كبيرة جدا مثل "جانات فونداشن"، و "سكريبس هوارد "و" تايم وارنر"...إلخ. فهذه التكتلات تنعم برأسمال يقدر بمليارات الدولارات ومستعدة لاستثمار مئات الملايين من الدولارات على إنتاج المواد الثقافية والإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها (أفلام، مسلسلات، أفلام وثائقية، دراسات، تحاليل...إلخ). أما بالنسبة للدول النامية، والتابعة، والمغلوب على أمرها فإنها لا تستطيع أن تنتج المادة الثقافية التي هي بحاجة إليها، وهذا نظرا لقلة الإمكانات المادية ولنقص الإطار البشري المتخصص والمؤهل، كما أن شراء المادة الثقافية المعلبة يكون أقل تكلفة بنسبة كبيرة من لو أن هذه الدول أقبلت على الإنتاج بنفسها. وتنسحب هذه القاعدة على غالبية الدول في العالم الثالث ماعدا القليل منها مثل الهند ومصر. يقدر الإنفاق الإعلاني في الولايات المتحدة الأمريكية بمئات المليارات من الدولارات سنويا وهذا الرقم يعني الكثير حيث إنه يساهم بدرجة كبيرة وبطريقة كبيرة في تمويل الصناعة الثقافية الأمريكية وفي تمويل الكم الهائل من المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها. هذا الحجم الإعلاني الكبير يوفر المستلزمات الضرورية للصناعات الثقافية الأمريكية لتفرض نفسها وتبسط نفوذها على العالم إذ نلاحظ أن سعر المنتجات الثقافية يكون رخيصا وفي متناول أي دولة في العالم مهما كانت مخصصاتها المالية للبرامج والمنتجات الإعلامية والثقافية. وبطبيعة الحال فإن الصناعات الثقافية الأمريكية ليست صناعات محايدة وإنما هي صناعات تعكس النمط الأمريكي في مختلف جوانب الحياة كما تعكس القيم والمعتقدات والأيديولوجية الأمريكية. وكنتيجة لكل هذا أصبحت مطاعم "الماكدونالد" موجودة في مختلف عواصم ومدن العالم - أكبر مطعم ماكدونالد في العالم يوجد في موسكو- وأصبح "رامبو" و " ميكي ماوس" وكرة السلة الأمريكية عناوين للنجاح والشهرة والعالمية والقوة. وهكذا نلاحظ أن الهوة بين الدول المالكة لتكنولوجية الاتصال وللصناعة الثقافية والدول المستهلكة سواء لتكنولوجية الاتصال أو لمحتواها تزيد عمقا يوما بعد يوم ولصالح الحفنة القليلة التي تهيمن وتسيطر وتفرض ما يحلو لها وما يخدم مصالحها وأهدافها. وهكذا فإن ظهور المجتمع المعلوماتي والرقمي في الربع الأخير من القرن العشرين يرفع تحديات كبيرة ومصيرية أمام الدول العربية حيث الحاجة إلى إعادة النظر في السياسة الاتصالية ووضع إستراتيجية إعلامية تقوم على التكوين والدراسات والبحوث والإنتاج وتخصيص موازنات معتبرة تليق بحجم التحدي والرهانات المستقبلية لصناعة الصورة والرأي العام.