14 سبتمبر 2025
تسجيلزميلٌ خلوقٌ ومحترم.. يصرُّ على أن يقدم نفسه بأنه علمانيّ التوجه.. ولولا هذا لكفاني ماذكرتهُ من صفاته في أول العبارة. فأنا لاأقبلُ عمليات التصنيف الثقافي السائدة في ساحتنا الفكرية في هذا الموضوع، وأعتقد أنها بحاجة إلى إعادة نظر بشكل كامل. سواء تعلق الأمر بمعانيها التاريخية ومااكتسبته عبر تقلبات الأيام والظروف من تغيير في الدلالات.. أو تعلق بطريقة إطلاقها على أعيان الناس وأفرادهم بهدف توزيع شهادات الصواب والخطأ والإيمان والكفر، وما إلى ذلك من ممارسات. في حوار مع الزميل المذكور شارك فيه طيفٌ متنوع من أصحاب التوجه الإسلامي، لمحت إصراره على السؤال والبحث عن (البرامج) التي يقدمها الإسلاميون، وعلى إثبات حقيقة عدم امتلاك الإسلاميين لـ (برامج). واقتصار طرحهم على الشعارات والمبادئ. ورأيت محاولات مختزلة لإثبات خطأ رأيه المذكور، فكان هذا الردّ الذي أوردهُ هنا، بتصرف بسيط، لدلالاته العفوية: من الواضح أيها العزيز أنك تبحث عن إجابات محددة، فاسمح لي بتقديم إجابة مختصرة وفي غاية التحديد ربما تساعد في هذا المقام. أنت تبحث كما يبدو يا صديقي عن برنامج (إسلامي) متكامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلاقات الدولية والأدب والفكر والفن والثقافة وغيرها من مجالات الحياة الإنسانية.. ولكي أريحك أقول لك صادقاً وبقناعة كاملة.. لا يوجد مثل هذا البرنامج أيها الصديق.. فالإسلاميون إجمالاً يمكن وضعهم في واحدة من ثلاث خانات بالنسبة لهذه المسألة. فالبعض، وهم الغالبية في اعتقادي، قاطنٌ إلى الأبد في مرحلة (عدم البحث عن برنامج) ابتداء.. لأن (البرنامج) في نظرهم موجود في القرآن وفي التراث الشرعي والفقهي المتوافر.. وهؤلاء لا ينفعُهم معك ولا ينفعك معهم حوار.. لأن مقومات الحوار غير موجودة أصلاً.. والبعض ينظر إلى الموضوع ويتعامل معه بشكل انتقائي. أي بطريقة (القص) و (اللصق). فشيءٌ من استحضار النماذج التاريخية وشيءٌ من الاستعارة من الغرب والشرق، ثم يخرجون لك بتوليفة يُقال لك معها أن البرامج موجودة. لكنك حين تضعها على محك منهج التقويم الصارم تجد أنها مشوهة وعرجاء، لاتصلح لا للتاريخ الذي استُحضرت منه، ولا للواقع (المغاير) الذي استوردت منه، فضلاً عن أن تصلح لبيئة مختلفة عن التاريخ وعن الواقع المغاير المذكور. أما البعض الآخر، وهم قلّة، فقد يمكن القول أنهم في مرحلة (ماقبل البرنامج).. بمعنى أن (البرنامج) غير موجود لديهم أيضاً، لكنهم يدركون أهميته وضرورته، ويحاولون إيجاده بدرجة من الموضوعية والعلمية. وربما يهمك ويهم البعض .. التعرف على ملامح موجودة لديهم في هذه المرحلة، وهي بمثابة مقدمات للوصول إلى مرحلة (البرامج) يمكن تلخيصها فيما يلي: 1) الإيمان (شعورياً / نفسياً) بأن (مقاصد) و(منطلقات) البرنامج وليس (تفاصيله) موجودةٌ في (النص) وفي الشريعة. وهم يحاولون عملياً وعلمياً البحث عن تلك المقاصد والمنطلقات لاستكشافها وتحديدها دونما انحصار في بعض الجهود التاريخية القليلة والمتقطعة في موضوع المقاصد.. 2) إعادة قراءة التجربة التاريخية الذاتية.. والتجربة البشرية العامة.. قراءة مجردة منهجية تحليلية نقدية منصفة.. لاحظ حساسية هذه المهمة وصعوبتها في ثقافتنا... 3) فهم الواقع المحلي والإقليمي والعالمي كما هو بإيجابياته وسلبياته.. لا كما ينبغي أن يكون في نظرهم.. 4) امتلاك آليات البحث العلمي من خلال منهجية التخصص.. وخاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية.. 5) بناء (مؤسسات) قائمة على تكامل التخصصات، الشرعي منها والعلمي في مختلف المجالات.. 6) صياغة مقاربات نظرية في مختلف حقول المعرفة البشرية تهتدي بـ (المقاصد والأصول).. وتستصحب مستخلصات (التحليل التاريخي والتجربة البشرية).. وتأخذ بعين الاعتبار نتائج قراءة (الواقع المعاصر).. وتستخدم أدوات البحث العلمي المنهجية المعاصرة.. كل هذا، تمهيداً لظهور (مقدمات) البرنامج.. أو ملامحه الأولية.. أو لنقل امتلاك الأدوات التي يمكن بناؤهُ انطلاقاً منها.. والتركيز الأكبر عند الأغلبية ممن هم في مرحلة ما قبل البرنامج هو على العناصر الثلاثة الأولى، مع تركيز أقل على العنصر الرابع رغم أهميته الاستثنائية.. أما خامساً أعلاه فما تزال تزحف للخروج من مواقع اللافعل أوالفعل الفقير، إلى مواقع الفعل المجدية أو الأكثر جدوى. حتى إذا ما تم ذلك وصلنا إلى سادساً.. ختام مسك هذه المرحلة.. وإرهاص مرحلة (البرامج).. وهذا طريقٌ لو تعلم يا صديقي طويل، ولكنه لاحبٌ. إن كنت تدرك ما أقول وتلك صورةٌ سترتسم.. وهي ترتسم..عبر التراكم والتجارب والتكامل والمحاولات.. وصدقني، لن تستطيع جهةٌ.. بله أن يستطيع فردٌ.. رسمها أمام ناظريك رغم كل الإلحاح الذي تطرح به أسئلة كبيرة مثل أسئلتك هي في حقيقتها بحجم التجربة البشرية.. وأنت تنتظر إجابات من فرد هنا و فرد هناك.. هل يعني هذا ألا تُحاوِر وتسأل؟ إطلاقاً.. فنشوءُ واستمرار مثل هذه الصيرورات الاجتماعية، الثقافية يقع خارج نطاق قدرة البشر على التحكم بها بشكل عام. لأنها في حكم السنن التي تحكم تطور المجتمعات والحضارات. لكن التفاعل الإيجابي بين (السنة الاجتماعية) وبين (الإرادة البشرية الواعية) يمكن له أن يغير مجرى السنة واتجاهها.. بشكل يتناسب طرداً مع قوة ووعي تلك الإرادة.. وإلى أن يحصل هذا، ستظلُّ - في تقديري المتواضع - تدور في حلقات مفرغة من البحث عن شيء غير موجود أصلاً.. وستبقى تسمع تأكيدات وتوضيحات يغلب أن تقع على (هوامش) الموضوع وفي جزئيات متفرقة من (ملامحه التاريخية) و(المعاصرة).. فالأمر يا صديقي بحاجة لعملية تفكيك دقيقة لطبيعة المشكلة.. ولطبيعة الحلول وطرحك له بهذا الشكل يحمل الكثير من الخلط المنهجي والمصطلحي الذي (تضيع معه الطّاسة) كما يقولون في الشام.. ونصبح معه جميعاً مثل الموجودين في حمّام دمشقي (مياههُ مقطوعة).. وكلي أمل أن تصل الرسالة هذه المرة على الأقل للحفنة من الزملاء وأصحاب الشأن والمهتمين الذين هم أقرب لمصادر المياه و(الطّاسات).. [email protected]