16 سبتمبر 2025

تسجيل

وداعاً أيتها الغالية..

02 يناير 2020

مهما تقرأ وتسمع عن معنى فقد الأم، فإنك لن تستشعر سوى اللهم عُشر المعنى، لأنك ستشعر بالنسبة الباقية حين تعيش جو الفراق والوداع فعلياً، وما يصاحب ذلك من ألم ومرارة لا يمكن وصفهما بالكلام مهما أبدع وحاول أحدنا ذلك.. وهكذا كان جو فراق والدتي العزيزة فجأة، من بعد صلاة مغرب الجمعة الفائتة، بعد معاناة كنا نحن من حولها، نشعر بآلام وأوجاع المرض ووخز الحقن ومرارة الأدوية التي تنوعت وازدادت في أيامها الأخيرة، حتى شعرنا مع ألم الفراق براحة معنوية لحالها بعد أن تخلصت من آلام ما يحدث لأي مريض بالمستشفيات، دون خوض في كثير شروحات وتفصيلات. ثلاثة عشر يوماً هي المدة التي عشتها منذ رجوعي بمعية أخي بوطارق من الخارج، في رحلة علاج لوالدي الكريم - أطال الله في عمره وعمر آبائكم وأمهاتكم – حيث ما أن دخلنا مبنى المطار، حتى صدمتنا مكالمة شقيقتنا أم محمد بأنها والوالدة العزيزة إلى الطوارئ متجهين، بعد أن ساءت حالتها. فما كان منا إلا التوجه من المطار إلى طوارئ مستشفى حمد، والساعة تقارب الرابعة فجراً. خلال الأيام تلك، من لحظة دخولها الطوارئ ثم العناية المركزة، عانت الكثير والكثير. ونحن ما بين ترقب لما ستؤول إليه حالتها، وما بين أمل ضئيل أنها تستطيع تجاوز الحالة. وعلى رغم ضآلة نسبة الأمل تلك، والتي كنا بحاجة وبكل صدق، إلى أي دفعة معنوية من أصحاب السترات البيضاء، الذين بحثنا عن تلك الدفعة عندهم، إلا أن الظن لم يكن في محله، حيث كانت صراحتهم وقسوة بعض التعبيرات من الاستشاريين والجراحين مؤلمة جداً، وقد كان بالإمكان – بغض النظر عن خطورة الحالة وما ستؤول إليه بعض قليل من الوقت – التخفيف مما نشعر به، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، ولا ألوم أحداً هنا، ولكنه حديث من باب التمني ليس إلا.. أحدهم قالها بوضوح إن الحالة حرجة جداً وإن علاجها كامن في عملية جراحية، لكن نسبة فشلها تتجاوز 90%، ولو غامرنا وتمت العملية فإنها كذلك لن تستطيع الصمود لأيام قليلة أخرى، والأفضل أن نتركها ونحاول التخفيف عنها فقط ! ولا ألومهم على صراحتهم، فربما هذه هي إجراءاتهم الطبية. لكن ما كنا نأمله منهم لم يتحقق. وتلك كانت صدمة أولى. صباح اليوم التالي، زارنا الاستشاري المسؤول عن مناوبة الفترة الصباحية، وعمّق من آلامنا، وقال إن حالتها صعبة وستبدأ أجهزتها الداخلية، مثل الكلى والكبد والقلب بالتدهور واحدة بعد الأخرى، ولا أعطيكم أمل أنها ستعيش أسابيع، بل هي أيام قليلة !! صدمة ثانية موجعة. مرت الأيام ثقيلة لكن مع ذلك لاحظنا استقراراً في حالتها واستجابة للمضادات الحيوية وبعض الأدوية الأخرى، حتى كان يوم الخميس، حيث بدأت المؤشرات الحيوية تفيد أن حالتها إلى الخفوت وتباطؤ عمل القلب وبقية الأجهزة أقرب، ولم يغشانا ليل الجمعة إلا والقلب تقل نبضاته وضغط الدم يتراجع.. وفي ثوان معدودة، يصيح جهاز القياسات الحيوية أن القلب في وضع خطر، وما هي إلا لحظات حتى يتوقف ذاك القلب الطيب الكبير، الذي استمر في عطائه بفضل الله ثمانية وسبعين عاماً. كانت لحظات موجعة لا توصف، ومن سوء حظي أن تلك الأحداث الأخيرة تحصل وأنا في طريقي للمستشفى، ولم أصل حتى كانت قد فارقت الحياة، في مشهد صادم لم أستطع البوح بكلمة أو التعبير عما جال بخاطري في تلك اللحظات، ولا أدري صراحة ما كان ببالي في تلك اللحظات. كل ما بقى بالذهن مشهد الوالدة وهي نائمة دون حراك، والكل حولها في تعبير عما كان يجول ويصول بخواطرهم وأنفسهم، وبالطبع لم تكن تسمع ساعتئذ سوى أصوات باكية خافتة وأخرى شبه عالية، وما بين شخص يحاول الصمود وتمالك نفسه، وآخر في حالة شبه منهارة.. فيما كان يخطر ببالي من ضمن الخواطر، مشهد أخي الكبير بوسعد، الذي كان أسوأنا حظاً، حيث دارت كل تلك المشاهد وهو بعد خارج البلاد، لم ير والدته، بل لن يراها كذلك اليوم التالي، وهذا ما حصل، ووصل متأخراً بعد انتهاء عزاء اليوم الأول. انتهى المشهد الصادم الأول، ليبدأ المشهد الثاني، والمرحومة – بإذن الله – على سرير يتجه نحو المشرحة وإجراءاتها، ومن ثم قررنا نقلها إلى المنزل في مشهد ثالث موجع جداً، وهو إخبار الوالد بالأمر، وأن يشهد اللقاء الأخير بالمرحومة. وقد كان حوله حينذاك بالمنزل بعض حفيداته في جو ساكن صامت وكأن على رؤوسهم الطير.. وظني أنه كان يشعر بأن أمراً جلالاً قد حدث، لكن لم يكن يدري بالأمر بعد. وكان الموقف الأصعب لي هو اختياري لإبلاغه بنبأ الوفاة.. حاول أن تتخيل موقفاً مثل هذا. دخلنا بالوالدة وهي في كفنها إلى البيت، والحضور صامت حزين. الكل يدري بالنبأ إلا والدي الكفيف - حفظه الله – وما إن ألقيت عليه السلام وسألني عن حال والدتي، لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة، فالعَبْرةُ خنقتني لحظتها بصورة لم أكن أتصور قوتها، فأدرك والدي الأمر، وبكاها بعمق وحزن شديد وأسى، وأبكى كل من حوله للحظات قليلة، لكنها كانت طويلة جداً على كل من كان يشهد الموقف. انتهى مشهد حزين في ليلة ستبدو أنها طويلة وموجعة، ليبدأ صباح اليوم التالي مشهد آخر لا يقل عن مشاهد الأمس، وهو مرافقة المرحومة - بإذن الله - في سيارة الإسعاف إلى مثواها الأخير في الدنيا. ولك أن تتصور الدقائق التي تكون فيها مع والدتك في سيارة الإسعاف وهي في كفنها أمامك، وما يمكن أن يمر ببالك من شريط طويل من الأحداث.. مشهد لا يمكنني وصفه. المسجد ممتلئ على آخره باعتبار أنه وقت صلاة الجمعة، وهو ما أسعدنا كثيراً أن وفاتها ليلة جمعة وبالتالي رزقها الله أن تكون الصلاة عليها في جامع كبير بعد صلاة الجمعة، يدعو لها المصلون بالرحمة والمغفرة، وفي ذلك بشارة أرجو الله أنها بشارة خير لها، استناداً إلى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم:" أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". سار المصلون بالجنازة إلى القبر، حيث وقفت قريباً منها فيما أحفادها الشباب، محمد وعبدالله وخالنا محمد تسابقوا في عملية إنزالها والقيام بمهام وإجراءات الدفن، حتى انتهى الأمر وساد جو من هدوء وخشوع في المقبرة. فالكل في لحظتها في دعاء خفي، أرجو الله أن يتقبل منهم ويجزيهم خير الجزاء على حضور الصلاة واتباع الجنازة والدعاء لها.. وفي هذا السياق، أقول إنني لم أكتب هذه المقالة إلا رغبة في فضفضة ما بالنفس من مشاعر ما زالت تتأجج، ومحاولة لتصفية الذهن وإعادة التوازن الوجداني بالكتابة، كوسيلة من وسائل التثبيت والتخفيف، إضافة إلى ما قام به المعزون – جزاهم الله خيراً – بالحضور الشخصي في أيام ثلاثة متتابعة، من تثبيت وتخفيف عنا، وغيرهم ممن هاتف أو غرّد.. إن مشهد فقد الأحباب محزن وموجع لا يمكن وصفه. لكن ما يخفف الأمر أن المرء المسلم بفطرته مؤمن بقضاء الله وقدره، وأن الموت ما هو إلا نقلة للإنسان من حياة إلى أخرى لا نعرف كنهها وطبيعتها، ولكن نرجو الله أن يكون الميت في تلك الحياة في ضيافة الرحمن في عالم نسميه البرزخ، إلى أن يحين موعد اللقاء بهم، وهو حق واقع لا يفر منه إنسان، وعلى أمل ورجاء من الله أن يكون الملتقى في جنة عرضها السموات والأرض، حيث لا أوجاع ولا أحزان. تحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. [email protected]