12 سبتمبر 2025
تسجيلفي الثامن عشر من ديسمبر من كل سنة، يحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية. هذا اليوم الذي اعتمدته منظمة اليونيسكو للاحتفاء بلغة الضاد. يهدف هذا اليوم إلى إبراز الإسهام المعرفي والفكري والعلمي لهذه اللغة وأعلامها في مختلف مناحي المعرفة البشرية عبر التاريخ، فالحضارة العربية الإسلامية لها إسهامات مشهودة في مختلف مجالات العلوم والمعرفة والآداب والفنون، ويعود إليها الفضل الأكبر في النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية التي كرَّست قيادة الغرب للعالم منذ أواخر القرون الوسطى. ويسعى اليوم العالمي للغة العربية كذلك إلى التأكيد على مركزية هذه اللغة، التي تُعد من أوسع وأشمل اللغات السامية انتشارا، فعدد المتحدثين بها يتجاوز 420 مليون نسمة في البلاد العربية، وفضلا عن ذلك فإنَّ التحكم فيها ولو جزئيا ضروري لأكثر من مليار مسلم في العالم لتأدية صلواتهم، كما أنها اللغة المعتمدة لدى عدد من الكنائس المسيحية في المشرق، وكتب بها جزء مهم من التراث الثقافي والديني اليهودي. الاحتفاء باللغة العربية يطرح عدة تساؤلات عن وضع هذه اللغة في بلدانها وفي المحافل العلمية والفكرية محليا وإقليميا ودوليا. وللوهلة الأولى نلاحظ أن اللغة العربية تعاني الكثير من المشاكل والعقبات والتهميش والازدراء من قبل أهلها مع الأسف الشديد. وهذا ليس بغريب نظرا للظروف التي تمر بها معظم الدول العربية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي...إلخ. من جانب آخر نلاحظ انبطاحا وخنوعا وخضوعا للعولمة الثافية والإعلامية أو ما قد نسميه الغزو الثقافي. فأصبح العربي يفتخر بامتلاكه لغة أجنبية لكن لا يخجل من عدم تحكمه الجيد في لغة الضاد. فالكثيرون يقللون من أهمية اللغة وينظرون إليها على أنها مجرد ناقل للمعلومات وللأفكار، لكن يتناسون أن اللغة هي أكثر وأكبر من ذلك بكثير، فهي التاريخ والحضارة والنسيج القيمي والأخلاقي للأمة. اللغة هي الهوية، هي الإنسان نفسه، هي روح الأمة وثقافتها وماضيها وكينونتها. مع الأسف الشديد هناك أفراد كثيرون في المجتمع من المتعلمين وأشباه المتعلمين وغير المتعلمين ينظرون إلى اللغة العربية على أنها لغة الشعر والنشر وأنها لا تصلح للقرن الحادي والعشرين وأنها لا تصلح للعلوم والمعارف. وأنه يتوجب على الشعوب العربية أن تتعلم لغات أخرى لتساير حركة النمو والتطور. ومع الأسف الشديد هناك نخب مثقفة تروج لهذه الفكار وتتبرأ من اللغة العربية، ومن جذورها وأصالتها. قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون". لقد حملت اللغة العربية الإسلام ومفاهيمه وأفكاره ونظمه وقيمه وأخلاقه؛ كما أصبحت لغة الدين والثقافة والحضارة والعلم والمعرفة والحكم والسياسة وقواعد ونظم السلوك والأخلاق والمنطق. ما هو مستقبل اللغة العربية في عصر العولمة والإنترنت وثورة المعلومات؟ ما هي مكانة لغة الضاد في الخريطة اللغوية العالمية وفي الأوساط العلمية والفكرية العالمية؟ ما هو موقعها ومكانتها في المحافل الدولية؟ما هو موقعها ومكانتها في عقر دارها وبين أهلها وذويها؟ ما هي مكانتها ودورها في وسائل الإعلام المختلفة وفي المنتجات الفكرية والأدبية والإبداعية؟ وهل استعمال العامية والدارجة واللهجات المختلفة أصبح شرط النجاح في التواصل مع الجمهور؟". أسئلة تستحق الوقوف والتأمل والدراسة لأنها تثير قضية جوهرية في أيامنا هذه وهي مكانة اللغة العربية في ضمير الأمة وفي وسائل الإعلام وفي حياة المواطن العربي وفي وجدانه وطريقة تفكيره وعيشه. الواقع يشير إلى أزمة معقدة تتفشى بسرعة فائقة ومذهلة والأمر خطير لعدة اعتبارات من أهمها أن العولمة وعصر الإنترنت والمعلوماتية لا ترحم ولا تشفق ومن لا يحصن نفسه بالعلم والمعرفة والإنتاج الفكري والأدبي فإنه سيذوب لا محال في الآخر وسيصبح كاللقيط الذي لا يعرف له لا أصلا ولا فصلا ولا تاريخا ولا جذورا.للغة قيمة جوهرية كبرى في حياة كل مجتمع وأمة، فهي الوعاء الذي يجمل الأفكار وينقل المفاهيم ويقيم روابط الاتصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة فيفرز التقارب والتلاحم والانسجام. اللغة العربية هي التي تقلت الإسلام ونشرته في بقاع الأرض كما نقلت الثقافة العربية عبر القرون والأجيال. فاللغة العربية هي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل. تواجه اللغة العربية تحديات كثيرة تحول دون تمكنها من مسايرة الحداثة والطفرات العلمية والتقنية الهائلة التي عرفها العالم. والواقع أنّ هذا العجز ليس بنيويا، فاللغة العربية تتميز بمؤهلات وبغنى معجمها، ومن هنا لا يمكن فصل مشاكل العربية عن حالة التخلف التي يعانى منها العالم العربي الإسلامي منذ قرون. وتواجه اللغة العربية غياب سياسات حكومية لتطويرها، وضعف البحث العلمي والإنتاج المعرفي وسيادة اللغات الغربية الموروثة عن الاستعمار في الإدارة والاقتصاد والتعليم، ومن التحديات كذلك ما يتعلق بمسايرة التكنولوجيا، وضعف حركة الترجمة. كما تواجه لغة الضاد مشكلا آخر يتمثل في صعوبة "الرقمنة". فاللغات اللاتينية مثلا سهلة "الرقمنة" لإمكانية كتابة كلماتها منفصلة الأحرف، وهذا غير متاح بالنسبة للعربية رغم أنَّ كل حرف عربي يمكن كتابته منفردا، وهو ما يُؤكد أنَّ العائق ليس بنيويا وإنما يحتاج فقط إلى جهد لتطوير الهوية البصرية للأحرف بما يُمكن من تركيب الكلمات وفق نسق يُناسب التعبير المعلوماتي المعروف بالتعبير الثنائي صفر واحد. ويعكس واقع اللغة العربية حالة التشرذم التي يعرفها الفضاء اللغوي العربي الإسلامي، التي تتمثل في فشل الدول العربية في توحيد المصطلح والتنسيق العلمي والأكاديمي في هذا المجال.