12 سبتمبر 2025

تسجيل

عن النخبة المحنطة

02 يناير 2013

 البحث عبر التاريخ المعاصر عن تفسير مقنع للأداء المحبط للنخبة العلمانية في مصر، يقودنا إلى نقطة زمنية بعيدة نسبيا تعود إلى مطلع القرن العشرين، حينما تشكلت النخبة الفكرية والسياسية على وفق النموذج الغربي الذي رسخه الاحتلال، وهو ما يبرر الوصف الذي أطلقه أحد مستشاري الرئيس المستقيلين (الدكتور سيف عبد الفتاح) على هذه النخبة بأنها نخبة محنطة، فمعظم خصائص النخبة الحالية تشكلت خلال الحقبة الليبرالية التي عاصرت الاحتلال البريطاني لمصر والتي يمكن أن نجد وصفا دقيقا لها في كتابات اللورد كرومر الذي كان معنيا بأمر هذه النخبة لأسباب تتعلق بمصالح دولته في المقام الأول. واللورد كرومر لمن لا يعرفه هو أشهر معتمد بريطاني في مصر، وكان قد عمل مندوبًا لصندوق الدين المصري 1877، ثم ما لبث أن عين بعد الاحتلال البريطاني مباشرة مندوبًا ساميًا ومعتمدًا لبريطانيا. وكان للورد كرومر دور كبير في النجاح الذي شهدته عملية تغريب النخبة المصرية، كما أنه صاحب تأثير كبير فيما يتعلق بتهميش فكرة الانتماء إلى العالم الإسلامي، أو ما كان يسميه هو فكرة الجامعة الإسلامية، بين صفوف هذه النخبة. وعلى مدار عدد من التقارير، التي جمعها لاحقا في كتاب بعنوان "مصر الحديثة"، سرد كرومر عددا من النقاط التي تصلح في مجملها لفهم أزمة النخبة العلمانية في مصر، فقد كان جزء مهم من نشاط كرومر ينصب حول صناعة نخبة متغربة، تستلهم الاحتلال في أفكارها وقيمها وبرامجها وتعارضه فقط من حيث وجوده المادي المباشر على الأرض المصرية. بعبارة أخرى نخبة تعارض المشروع السياسي لدولة الاحتلال من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. وقد حدد كرومر خصائص هذه النخبة بأنها غير معنية بالدين أو بالرابطة الدينية، "وحتى من يعلي منهم راية الجامعة الإسلامية فإنه يفعل ذلك لأغراض سياسية أو براجماتية". ومما حال بين هذه النخبة وبين الانخراط تحت راية الجامعة الإسلامية وفقا لكرومر، "أن معظم أفرادها لا يعتقدون أن مبادئ الإسلام التي نزل بها الوحي منذ أكثر من ألف عام، هدى لجماعة في حالة الفطرة، تصلح للتطبيق في هذا العصر"، "خاصة أن من هذه المبادئ ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننا وشرائع عن علاقة الرجال بالنساء مناقضة لآراء أهل العصر الحديث، ومنها ما يتضمن إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد". وقد خلص كرومر إلى أنه ونظرا لهذه الأسباب تستنكر النخبة المهتمة بإصلاح مصر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، أو تناصرها مناصرة ظاهرية فحسب. وقد أوصى كرومر الحكومة البريطانية بأن تبذل أقصى جهد لحماية هذه النخبة، لكي لا تجتذبها على حركة الجامعة الإسلامية، التي كان يعتبرها خصما صريحا لمشروع بلاده ومصالحها. قطاعات واسعة من النخبة المصرية الحالية تشترك في نفس الخصائص الموضحة أعلاه، فهي تبدي استنفارا مبالغا فيه ضد أي حديث عن ائتلاف إسلامي أو سوق إسلامية مشتركة، وتتعامل مع مسألة الامتداد الحضاري الإسلامي على أنها فكرة ذات طابع فلكلوري وليس أكثر من ذلك، وتعارض أي تفكير في استلهام الشريعة في مجالات الاقتصاد أو التشريع أو القانون، كما أنها لا تمانع في مغازلة الأجنبي وطلب العون والمساعدة منه، لمساعدتها ضد خصومها من الإسلاميين. أما الأسوأ على الإطلاق فهو استعدادها لتعريض مصلحة البلاد إلى الدمار المحقق، بترويجها لمقولات عن الوضع الداخلي تخدم الأجانب بالأساس ولا تأبه للمصالح الوطنية الداخلية. ولعل أكبر شاهد على ذلك هو ما تقوم به هذه النخب هذه الأيام من تنديد مبالغ فيه بالوضع الاقتصادي الداخلي، وتأكيدها في غير مناسبة أن هناك انهيارا حتميا يوشك أن يحل بالبلاد، واستخدامها لعبارات كارثية من قبيل أن الأزمة الحالية سوف تعصف بالاقتصاد المصري، أو تضعه على حافة الهاوية، أو تنتهي بالدولة إلى الإفلاس. وتستدعي لتأكيد وجهة نظرها مجموعة من التقارير الائتمانية الغربية، وأخرى عن معدلات النمو ونسب البطالة، ونسب من يعيشون تحت خط الفقر، بهدف رسم صورة مفزعة للأوضاع الداخلية. صحيح أن أداء الحكومة الحالية في المجال الاقتصادي يحتمل الكثير من النقد، وصحيح أن مشاريعها مازالت متلبسة بنفس أداء النظام السابق، الذي يميل إلى امتصاص الغضب الشعبي عبر التمادي في عجز الموازنة واللجوء إلى الاقتراض. ولكن هذا لا يعني أن تستثمر المعارضة هذه الأخطاء لتعرض البلاد بأكملها للخطر. ما يزيد من سلبية الدور الذي تقوم به هذه النخبة أنه في مجال الاقتصاد تؤدي التوقعات السيئة إلى نتائج سيئة، فالإلحاح على فكرة أن الاقتصاد المصري لا يمثل بيئة آمنة للمستثمرين يؤدي إلى هروب المستثمرين بالفعل، ففي هذا المجال للشائعات دور يفوق دور الحقائق. الأمر الذي يوحي أن حديثها لا يستهدف التحذير من مخاطر الوضع الاقتصادي بقدر ما يمثل محاولة منها لنقل لدفة الصراع ناحية الاقتصاد بعد أن انتهت معركة الدستور وخرجت منها هذه القوى خاسرة. يبقى القول إن ثمة فارقا بين النخبة الحالية والنخبة التي تحدث عنها كرومر في تقاريره، ذلك أن الأخيرة كانت، على أي حال، تبتغي ترقية مصالح البلاد وذلك من دون معارضة مصالح الغربيين، أما النخبة المعاصرة فلديها استعداد لأن تضحي بمصالح وطن بأكمله من أجل أن تحرز مكاسب سياسية ضيقة. هذه النخبة تصدر حديثها عن الأزمة الاقتصادية إلى الخارج كي لا يبعث باستثماراته إلى مصر ولا تسهم من جانبها بأي جهد في محاولة تحسين الأوضاع الداخلية أو انتشال الاقتصاد المصري من كبوته. وكأنها تتخيل أنها يمكن أن تصل إلى الحكم عبر تأييد ودعم الأطراف الخارجية التي تتوجه إليها بالنصح، وليس عبر أصوات الجماهير التي لم تنجح حتى الآن وبعد مرور عامين من الثورة في أن تقدم لها ما تحوز بها ثقتها.