12 ديسمبر 2025
تسجيلإذا كان الانسحاب الأمريكي من العراق أحدث خللاً استراتيجياً في المنطقة، فإن عدم سقوط النظام السوري زاد ذاك الخلل وضاعف من خطورته، وفي مثل هذه الحالات، غالباً ما يحصل تدهور قد يسفر عن وقوع حرب إقليمية، أو حروب أهلية داخلية تخفف من الاحتقان الإقليمي. قد يكون نوري المالكي ارتكب خطأ تكتيكياً في التعامل مع الاتهامات الموجهة إلى نائب الرئيس طارق الهاشمي، معتقداً أنها يمكن أن تمر من دون أن تثير الاستقطاب الطائفي، من الواضح أنه إما أخطأ في حساباته لتعزيز سلطته وسطوة نفوذه، أو أنه تسرع في ترجمة ما سمعه في واشنطن من إطراء عام للطريقة التي يدير بها شؤون العراق، إذ عاد منها منتفشاً وواثقاً بأنه يستطيع أن يقوم بأي عمل من دون أن يجرؤ أحد على معارضته. لعله فوجئ بردود الفعل، ووجد أن القوى السياسية الأخرى، بما فيها تلك المنضوية مع تكتل "دولة القانون" الذي يتزعمه في إطار "التحالف الوطني" تتلكأ في مساندته وإن لم تكن مهتمة بالهاشمي أو بسواه من أقطاب السنة، فحتى طهران اضطرت إلى إرسال وفد إلى كردستان للعمل على احتواء الأزمة، وإن كانت تدعم المالكي في مختلف الأحوال، ولا شك أن هذا الوفد انتهى في مهمته إلى تلمس جوانب أزمة عميقة تعود جذورها إلى شخصية المالكي وأسلوبه الذي بات يقارن بسهولة بأسلوب صدام حسين. أما الجانب الأمريكي فحرص على أن يوضح ان استقبال المالكي في واشنطن كان اعتياديا، وأن المحادثات معه لم تهدف أبدا إلى منحه ضوءا أخضر للتصرف بما ينسف التوافق الهش الذي تعيشه الفئات السياسية في العراق، وبالتالي فإن الخلاصات التي توصل إليها المالكي تخصه وحده، كذلك ممارساته. ولا يتعلق الأمر باتهامات للهاشمي قد تكون صحيحة وقد لا تكون، ولم يكن كافيا أن يستند المالكي إلى غطاء قضائي بل أن مسؤوليته تشمل أيضا النظر في الانعكاسات السياسية لخطواته كافة. المهم أن أخطاء المالكي غيّرت أحوال العراق من نقيض إلى نقيض. فبعدما كان يؤمل منه أن يشرف على تظهير مكانة العراق المتحرر من الاحتلال والمتأهب لتفعيل استقلاليته، فإذا به يعيد البلاد إلى أجواء الانقسامات واحتمالات النزاع الأهلي، وفي الوقت الذي التقط المراقبون "المبادرة العراقية" في سوريا باعتبارها إشارة إلى عودة العراق كقطب عربي وإقليمي يريد لنفسه دوراً مؤثراً، إذا بالأزمة الداخلية تعيده إلى الواقع، إلى حد أن "المبادرة" بدت كأنها لم تكن، لكن خطواتها الأولى الصغيرة كانت كافية لاستنتاج أن المالكي يريد التوسط سورياً من موقعه على الفلك الإيراني، وليس كطرف محايد بين النظام والشعب السوريين، لذلك فإن أفضل ما يمكنه تحقيقه أن يرسخ العراق في موقع عربي هامشي. انطلاقاً من هذا الموقع، وطالما أنه يسيطر على القرارين السياسي والأمني، ومراعاة للاستراتيجية الإيرانية، سيدعم المالكي صمود النظام السوري الحالي، رغم يقينه بأن هذا النظام تراجع عملياً رغم الحصيلة الدموية اليومية التي يحققها، لم يهتم المالكي بالتناقض بين اجتثاث البعث في العراق ومساندته في سوريا، ولا بضرورة توجيه الاهتمام إلى تحقيق مصالحة وطنية في العراق بدل الدفع نحو إخضاع فئة لحساب فئة أخرى. وإذا كانت مقتضيات البقاء في السلطة تجعل النظام السوري لا يمانع جرّ البلاد إلى حرب أهلية وإطالة الأزمة الراهنة، فإن الوضع في العراق يستدعي على العكس استكمال الخروج من الأزمة وبذل كل ما يمكن أن يحول دون أي عودة إلى مناخ الاقتتال الأهلي. في ظل التأزم المزدوج، السوري والعراقي، يمكن فهم التصعيد الحالي في الأزمة الإيرانية مع دول الغرب. قد لا يكون الملف النووي سوى عنوان عام، أو بمثابة ذريعة، أما الهدف فلابد أن يكون البحث عن توازن استراتيجي جديد بعد الخروج العسكري الأمريكي من العراق، كان بعض المحللين اختصر الموقف بالآتي: الأمريكيون أعطوا العراق لإيران لكنهم لن يسمحوا لها بالاحتفاظ بسوريا، لكن ما سمي "الاستعصاء السوري" واحتمال استمرار الأزمة السورية لوقت أطول مما كان متصوراً، قد يكون غيّر السيناريوهات المحتملة: أي أن تعذر التدخل الدولي للضغط لإسقاط النظام السوري، وبالتالي لإضعاف إيران، وربما برر العودة إلى الضغط على إيران نفسها، لكن المخاطر والمحاذير لا تزال هي نفسها ولم تتبدل. فمن جهة ترتكز دول الغرب إلى نفاد "بنك الأهداف" التي يمكن أن تصوّب عليها لفرض مزيد من العقوبات على إيران، لتقول إن الوقت حان للحظر النفطي، أي للعقوبة الأشد إيلاماً. ومن جهة أخرى تعتبر إيران أنها استطاعت التعايش مع مختلف أنواع العقوبات وتحملت الكثير من المصاعب والمضايقات والأكلاف طالما أنها لم تمس النفط كمصدر رئيسي لمداخيلها، فإذا كانت دول الغرب في صدد حرمانها من هذا المصدر، فهذا يعني أنها تسعى إلى خنقها اقتصاديا، وفي هذه الحال فإنها قد ترد بعمل حربي على ما تعتبره حرباً فعلية عليها، وللمرة الأولى لم تعد إيران مترددة بشأن إغلاق مضيق هرمز، مع علمها أنه حيوي واستراتيجي وأن إغلاقه سيستدعي ردود فعل حربية أيضاً. إذن، فالحرب باتت احتمالاً أكثر سخونة من ذي قبل. ثمة أسباب ودوافع لها نجدها خصوصاً في مضاعفة إيران تحدياتها خصوصاً للولايات المتحدة ما يضع باراك أوباما في وضع حرج وهو يستعد للحصول على ولاية ثانية في البيت الأبيض، بل ربما نجدها أيضاً في تزايد شكاوى دول الخليج من تدخل الجار الإيراني في شؤونها، يضاف إلى ذلك أن الدوائر الغربية تروج حالياً أن امام إيران اقل من سنة للحصول على سلاح نووي، رغم أن المعلومات العلمية المتاحة لا تؤيد هذه الفرضية. في الوقت نفسه لا تزال المحاذير التي حالت سابقا دون الاتجاه إلى حرب على إيران ماثلة أمام الجميع، فهذه حرب ستكون مكلفة، وانفلات أسعار النفط سيفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، فضلاً عن أن أحداً لا يستطيع احتواء مثل هذه الحرب ومنع امتدادها إقليميا، لذلك يعتقد بعض الخبراء أن أي خطر نفطي يفرض على إيران قد لا يكون شاملا بل قد يتضمن ثغرات تمكن طهران من الالتفاف عليه، ما لا يضطرها إلى تنفيذ تهديد بإغلاق مضيق هرمز الذي سيجعلها البادئة بالحرب وهو ما حاذرته دائماً.