30 أكتوبر 2025
تسجيلفي العقد الأخير من القرن الماضي كانت الصحافة الورقية في الوطن العربي تعيش عهدها الذهبي قبل أن تدخل الفضائيات على خط المنافسة وقد تجلى ذلك من خلال انفراد CNN بتغطية حرب تحرير الكويت عام 1990. وبعد ذلك بدأت تتراكم مؤشرات انحسار الصحافة الورقية في ظل ازدهار موجة الفضائيات والثورة الرقمية. وفي خضم ذلك كله تسيدت المشهد الإعلامي في القرن الماضي. أطلت الجزيرة كأول قناة إخبارية عربية لتدشن فجرا جديدا للإعلام العربي وحجزت موقعا مرموقا على خريطة الإعلام الدولي. في بداية انطلاقتها عام 1996 أثارت الجزيرة الكثير من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية وكنا نتساءل بشغف عن أجندة هذه القناة التي جاءت من خارج السياق وعن قدرتها على الاستمرار وعما إذا كانت ستضيف جديدا إلى الساحة الإعلامية. وغالبا ما كان النقاش ينتهي بأن الجزيرة تجربة جريئة جديرة بالاهتمام. ولم يكن أحدنا يتوقع أن تصبح الجزيرة منارة الإعلام العربي. مضت الجزيرة بثبات لم نعهده في المؤسسات الإعلامية العربية وكانت تتطور وتتقدم شيئا فشيئا. وتمكنت خلال السنوات الخمس الأولى من إرساء هويتها وحضورها. وسرعان ما بدأ هذا الحضور يتجذر ويتطور بشكل قياسي مستفيدة من الأحداث الكبرى التي توالت في المنطقة، فمن أحداث 11 سبتمبر عام 2001 إلى غزو أفغانستان ثم غزو العراق عام 2003 ثم التطورات الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 بعدها الحرب على غزة عام 2008. هذه الأحداث التاريخية الكبرى التي شهدتها المنطقة شكلت منصة انطلاقة صاروخية للجزيرة في فضاء الإعلام العربي. وذلك بفضل عنصرين جوهريين أولهما المستوى الرفيع في التغطية الميدانية والتي ضاهت في مهنيتها ومصداقيتها أعرق الشبكات الأمريكية والأوروبية. وثانيهما انحيازها لقضايا الشعوب العربية مما جعلها ضمير الشعوب العربية. وقد دفعت الجزيرة ثمنا باهظا لهذا الخيار تمثل بالاعتداء على مقراتها في أكثر من عاصمة وتقديم كوكبة من الزملاء الشهداء الذين كانوا يضحون بأنفسهم لأجل الوصول إلى قلب الحدث. هذا النجاح أسس لمرحلة إستراتيجية في مسيرة الجزيرة بدأت مع الربيع العربي عام 2011، حيث دشنت الجزيرة دورا قياديا في رصد الثورات هو الأول من نوعه على مستوى العالم. وأصبحت الجزيرة من شاهد على التاريخ إلى صانع للتاريخ. وكان لبلوغ الجزيرة هذا المستوى من الدور الريادي والنوعي أثمان باهظة رشقت به بشتى الاتهامات السياسية الباطلة وأصبح إسكاتها مطلبا بين الدول. لكن ذلك لم ينل من عزيمة الجزيرة. التي واصلت تألقها لتصبح الخبر الأول في وسائل الإعلام العالمية والمصدر الأول للخبر إقليميا ودوليا. استحقت معه أن تدرج على قائمة القنوات التي يشاهدها صناع القرار في العالم. وفي كثير من المحادثات السياسية بين قطر وعدد من الدول كانت الجزيرة البند الأول في المحادثات وشرطا لحل الخلافات. لكن ذلك أكسبها مناعة مهنية عالية وحصَّن سياستها التحريرية من الرضوخ لكل أنواع الضغوط والابتزاز وكان من ثمار ذلك ارتفاع عدد مشاهدي الجزيرة إلى نسب قياسية يعجز الآخرون عن اللحاق بها. 1 نوفمبر سيبقى علامة فارقة في تاريخ المنطقة وفي مسيرة الإعلام العربي. فقد صنعت الجزيرة بصمتها الخاصة وغيرت المشهد الإعلامي العربي مثلما ساهمت بتغيير المشهد السياسي في الشرق الأوسط. تجربة الجزيرة فريدة ويصعب تقليدها واللحاق بها كونها ترتكز على مقومات متعددة تغطي جميع جوانب الإعلام عبر شبكة متكاملة تواكب العصر إلى درجة يندر أن تجد وسيلة تواصل رقمية تغيب عنها الجزيرة فهي موجودة مع الجميع وللجميع وفي كل مكان. حاولت مؤسسات عربية تقليد الجزيرة لكنها أخفقت وسقطت في اختبار المصداقية وسقطت تلك المؤسسات أيضا عندما تعاملت مع المشاهدين على أنهم تلاميذ يمكن تضليلهم. بينما الجزيرة أثبتت أنها تحترم عقول المشاهدين، فلا تملي عليهم وجهة نظرها ولا تدس السم في العسل كما تفعل بعض الفضائيات. لقد التزمت الجزيرة بأن الخبر هو الخبر وليس وجهة نظر. ولذلك اعتمدها الناس وجهة للتحقق من كثير من الأخبار الزائفة والمضللة والمفبركة التي تضج بها وسائل التواصل. لقد أصبحت الجزيرة نهجا إعلاميا يتعلمه الراغبون بتعلم الصحافة واحترافها، وأصبحت المدرسة الصحفية الأولى فيما طوى الزمن ما كان يعرف بالمدرستين الصحفيتين اللبنانية والمصرية اللتين كانتا سائدتين في القرن الماضي. الجزيرة في يوبيلها الفضي دشنت عهدا ذهبيا للإعلام العربي. ودشنت أول دور قيادي للإعلام في صناعة التاريخ. [email protected]