16 سبتمبر 2025
تسجيلمنتصفَ الأسبوع الماضي، نشر الأستاذ فهمي هويدي في هذه الصفحة مقالاً بالعنوان المُتضمن في عنوان هذا المقال.والحقيقة أن القارئ العربي، بشكلٍ عام، والمصري تحديداً، استفاد من كتاباته المتوازنة والمنهجية على مدى عقود، ولايزال يستفيد، بحيث أصبح الرجل من رموز الكتابة الصحفية العربية (النادرة)، التي تحاول الجمع بين شمول الاطلاع وموضوعية التحليل وسلاسة الكتابة. الأمر الذي جعل عطاءه بمثابة مدرسةٍ في الصحافة العربية استفاد منها كثيرون، منهم كاتب هذه الكلمات.وتأتي الملاحظات التالية حول مقاله المذكور، على سبيل الوفاء لمنهجية الموضوعية والحرص على فهم قضايانا الحساسة من زوايا مختلفة، لتقديم قراءةٍ للظواهر تُساعد القارئ العربي على فهمها بشكلٍ أعمق، والتعامل معها بفعاليةٍ أكبر.ففي جملة مقال هويدي الأخيرة، نجد حمولةً من (المُصادرات) الكامنة فيها، تنطوي على قضايا ثقافية وحضارية وتاريخية. وإذ نشكﱡ بأن الكاتب قَصدَ تلك المصادرات بشكلٍ مباشر، لكن معناها ودلالالتها تؤثر في القراء، وفي منهجية الموضوع نفسه، بشكلٍ لا يسمحُ بتجاوزها والقفز فوقها، بغض النظر عن النيات.فبعد التأكيد على رغبته بعدم التقليل "من دور أحد"، والحديث عن عوامل جغرافيا وتاريخ "فرضت على مصر موقعاً مارست من خلاله القيادة حين وفت باشتراطاتها"، يقول إن "المقعد ظل شاغرا ولم يستطع أحد ملأه طوال العقود الأربعة الماضية"، ليُصدر بعد ذلك الحكم الحاسم "بأن مصر هي المشكلة وهي الحل"..نَذكرُ هنا أن باحثي العلوم الاجتماعية يُحذرون دوماً من النظر، علمياً، إلى متغيرٍ واحد بحيث يتم الاعتقاد أنه (العنصر) الذي يفسر أي ظاهرة في الحياة الإنسانية. من هنا، نعتقد أن المقولة الأنسب، والأكثر موضوعيةً في مثل هذا المقام هي الحديثُ عن مصر بوصفها "جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل". فتاريخ مصر مع العرب وتاريخهم معها، فضلاً عن استقراء المتغيرات الكبرى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل، تؤكدُ مُجتمِعةً، حقيقة هذا الوصف الأخير.والعودة إلى فقرات مقال الكاتب تساعدنا على الشرح والتفصيل. فهو يطرح نظريته التي تضع اتفاقية السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979م في نفس خانة اتفاقية الروس والعثمانيين عام 1774م، ويستخلص أنه، كما كانت الأولى سبب تدهور، ثم انهيار، الدولة العثمانية، "فإن أي تحقيق تاريخي نزيه سيجد في اتفاقية السلام التي وقعت مع إسرائيل مؤشرا على بدايات الانهيار في العالم العربي" كما يقول.لا يتسع المقام لكثيرٍ من التفصيل المطلوب، لكننا سنحاول البحث في التاريخ أولاً، ثم في متغيرات الواقع العربي، عن شواهد تدعم رؤيتنا بأن القضية تتجاوز حصر "مشكلة" العالم العربي في مصر ودورها، كما هو "الحل" أيضاً. دون أن ينتقص هذا من دور مصر الكبير بطبيعة الحال.فمن (نكبة) عام 1948م التي حصلت بوجود الجيش المصري إلى (نكسة) حزيران، عام 1967م، التي ربما أمكن اعتبارها هزةً حضاريةً حقيقيةً للعالم العربي بأسره، يعرف العرب أبطالها، وصولاً لـ (انتصار أكتوبر).. نلمحُ أشياء أخرى كثيرة حصلت، لمصرَ دورٌ رئيسٌ فيها، قبل عام المعاهدة المذكورة.ثمة هنا مشهدٌ تاريخي طويل يتجاوز ما حصلَ في ذلك العام، ويُوضحُ كيف كانت مصر قبله أيضاً "جزءاً من المشكلة"، وليست "المشكلة". ولكن، تأتي، في المشهد نفسه، إسهاماتُ المصريين في مجالات الثقافة والتعليم والأدب والفن والمعرفة والإدارة والقانون داخل مصر وخارجها، ويأتي دور الأفكار التي انتشرت في العالم العربي انطلاقاً من مصر، مع معلميها وأطبائها وخبرائها في كل مجال، لتُظهر كيف كانت مصر "جزءاً من الحل".بالمقابل، يمكن بشيءٍ من المتابعة والتحليل للتغيرات التي حصلت في باقي أنحاء العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، كما هو الحال في دول الخليج العربي مثلاً، أن تلقي مزيداً من الضوء على معادلة المشكلة والحل. فالدول المذكورة لا تمثل "المدينة الفاضلة" طبعاً، كما هو الحال أيضاً مع مصر وكل بلدٍ آخر من اليابان إلى أمريكا. وثمة قضايا كثيرة تحتاج إلى مراجعةٍ وتطوير وتجاوز فيها. لكن من الإجحاف إغفال دورها كـ "جزءٍ من الحل" في كثيرٍ من المجالات، خاصةً حين يكون الحديث في سياقه الحضاري، وتكون وحدتهُ الزمنية بِعُمر الأجيال، لا ببضع سنوات.ثمة، مثلاً، أكثر من عشرة ملايين عربي يعملون في دول الخليج، وتحويلات هؤلاء تشكل عائداً أساسياً في ميزانية دول كثيرة. هذا في حقل الاقتصاد، ويعرف الجميع معانيه حتى دون تخصص في ذلك الحقل.ورغم كل التحديات والسلبيات الممكنة دائماً، يُحسب للدول المذكورة الريادة في دخول العرب عالمَ تقنيات الاتصال والإعلام الحديث التي شكَّلت، ولاتزال وستبقى، جذور ثورةٍ كبرى في الواقع العربي الراكد. تبرز هنا قناة (الجزيرة) مثالاً، فضلاً عن كون شعوب الخليج والمقيمين فيها من أكثر سكان العالم تعاملاً مع الإنترنت نسبةً لأعداد السكان.أما النموذج القيادي في المرونة الإدارية والتطور العمراني والانفتاح على الثقافات واستيعابها، كما هو الحال في مدينة دبي مثلاً، فأمرٌ بات معروفاً، حتى في ظل الحاجة، مرةً أخرى، إلى استكماله وتطويره ثقافياً واجتماعياً.وأخيراً، تبدو قيادة هذه الدول سياسياً، في هذه المرحلة، للعالم العربي حقيقةً لاتحتاج لتوضيح. ولو كان لدى البعض تجاهَها ملاحظاتٌ، من التأكيد أن مثلها كان موجوداً لدور مصر القيادي للعالم العربي قبل عام 1979 وبعده.زبدةُ الكلام أن "المشكلة" في العالم العربي أعمق وأكبرُ بكثير من أن تُحصر في دولةٍ أياً كانت. فنحن كعرب، من المحيط إلى الخليج، نعاني جملة أزمات، أساسها ثقافي وفكري بالدرجة الأولى. وإذ يطول الحديث فيها، فإن مما يكفي هنا القولُ بأن "الحل" هو أيضاً أكبرُ من أي دولة، وأكثر شمولاً من أن يُحصر فيها.وبدون قصد، ربما يصبح التركيز على ذلك (العنصر التفسيري) الوحيد مدعاةً لاستقالة الكثيرين من واجبهم، انتظاراً لعودة (البطل) إلى الساحة، مادام كل حلٍ في غيابه (ناقصاً)، كي لا نقول (عبثياً).. هذا فضلاً عن مناقضة هذا المنهج في التفسير التاريخي / الحضاري لمقتضيات منطق عملية بناء الدول والحضارات، وصيروتها المُعقدة. منذ ثماني سنوات كتبتُ مقالاً بعنوان "مصرُ التي نحب" قلتُ في مطلعه: "كما هي الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، تبقى مصرُ التي نحبّ عرباً ومسلمين".. وبَعدها بعام، كتبتُ مقالاً آخر بعنوان "أين مصر؟" تساءلتُ فيه عن غيابها، قائلاً في السياق: "إن الغياب المذكور يؤدي إلى اختلال خطير في موازين القوى بين العرب وغيرهم من القوى الإقليمية والعالمية.. وهو اختلال لا يقتصر على الجانب السياسي وإنما يشمل أيضاً الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لسببٍ بسيط هو أن دور مصر في جميع تلك المجالات كان أساسياً في الماضي على الدوام، ويجب أن يبقى أساسياً في الحاضر والمستقبل".وهذا الاستحضار قد يكون، في النهاية، مشروعاً لوضع الأمور في سياقها المتوازن، نفسياً وفكرياً وعملياً، إذا كنا نبحثُ جميعاً، بشجاعةٍ وشفافيةٍ وموضوعية، عما يُصلح واقعنا العربي الراهن بشكلٍ جذريٍ وشامل. والأفضلُ أن يحصل هذا بعيداً عن الآمال والأمنيات في انتظار (بطل)، قائداً كان أو حزباً أو دولةً أو شيئاً (واحداً) أياً كان.. ففي حين يصبح الخروج من النفق الراهن ممكناً جداً برؤيةٍ شمولية لطبيعة المشكلة، وإبصارِ مداخل حَلِّها تالياً، سيكون ذلك الانتظار مثل انتظار (غودو) الذي قد لايأتي في نهاية المطاف...