28 أكتوبر 2025

تسجيل

الدرس التونسي

01 نوفمبر 2014

شاءت الصدف أن أكون في تونس قبل أسبوع من الانتخابات التشريعية، كان الوضع عاديا وكانت هناك حملة انتخابية في المحطات التلفزيونية الرسمية حيث كان يتداول على الشاشة رؤساء القوائم وكبار المرشحين لتقديم برنامجهم وتسويق مشاريعهم، أما بالنسبة للتسويق السياسي والإعلانات في الجرائد والمحطات الإذاعية والتلفزيونية وعبر الملصقات وغيرها فأخبرني محدثي أنه تم منع التسويق السياسي وكل أنواع إعلانات السياسية وعندما استفسرت عن السر في ذلك قال لي:"حتى لا يتسرب المال الفاسد إلى السياسة"، القراءة الأولية لانتخابات تونس تشير إلى النضج السياسي في هذا البلد الذي أصبح قدوة للانتقال الديمقراطي بعيدا عن العنف والفوضى والإقصاء، بل عمل بثقافة التناوب على السلطة والابتعاد عن أي نوع من العنف والخروج عن إطار إتيكيت العملية السياسية. تونس برهنت للعالم أنها مختبر ناجح للانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي والعالم الثالث، أكدت تونس ذلك عبر نجاحها في تنظيم انتخابات 26 أكتوبر التشريعية، ما أهلها منذ اليوم الأول للاقتراع، إلى نيل "إعجاب" كبار الفاعلين في العالم، فخلال 3 سنوات من المرحلة الانتقالية، تمكن التونسيون من تجنب الانزلاقات نحو العنف والفوضى والسطو على إرادة الشعب، ما جعل التونسيين يشعرون بالفخر والرضا، لأن الانتخابات البرلمانية جرت في هدوء واتزان وتحكم في النفس ودون وقوع حوادث شغب أو عنف، فضلا عن نسبة مشاركة جيدة ونتائج قبلت بها جميع الأطراف، رغم أنها أدخلت تغييرا جوهريا في موازين القوى السياسية بعد أن فقد "حزب النهضة"، الذي كان قد حاز على أغلبية مقاعد التأسيسي عام 2011، هذه الأسبقية لصالح خصمه السياسي المباشر، حزب نداء تونس. فالمشاركة في العملية الانتخابية بلغت نسبة 62% وهذه نسبة معقولة جدا تشير إلى الاهتمام بالفعل السياسي وبالمشاركة السياسية. أمر إيجابي عندما تشاهد طوابير منذ الصباح الباكر للقيام بالواجب الانتخابي، وهنا نلاحظ أن الشباب مع الأسف الشديد انسحب من هذه العملية وعبر عن عزوفه بلا مبالاة كبيرة حيث إنه يرى أن أحلامه لم تتحقق بعد. فالبطالة مازالت كما هي أما الأسعار فإنها ارتفعت والمعيشة أصبحت غالية. قد يتساءل سائل ويقول لماذا نجحت تجربة الياسمين وفشل الربيع المصري والليبي واليمني؟ ولماذا فشلت تجربة الجزائر قبل ربع قرن؟ بكل بساطة نجاح تونس يعود بالدرجة الأولى إلى عدم تدخل المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية والتزامها مكانها الطبيعي وهو الثكنة العسكرية ودورها الطبيعي وهو حماية السيادة والإقليم والشعب، فالعسكر هو الذي ضرب عرض الحائط مقومات الديمقراطية والتناوب على السلطة واحترام الرأي والرأي الآخر في دول مثل مصر وليبيا والجزائر. النضج السياسي في تونس جعل راشد الغنوشي، رئيس حزب "النهضة" وقبل ظهور النتائج النهائية يبارك النجاح والفوز لباجي قايد السبسي رئيس حزب "نداء تونس". هذا السلوك الحضاري ينم عن ثقافة وعن ممارسة أخلاقية ناضجة ومتفهمة لاختيار الشعب وقناعاته. فعلى عكس هذا السلوك الحضاري نلاحظ الانقلاب الأبيض على الرئيس مرسي في مصر وإلغاء الانتخابات التشريعية في الجزائر سنة 1991. وهذا يعني أن المؤسسة العسكرية في كلا البلدين قامت بالسطو على إرادة الشعب وفرضت إرادتها وهذا بطبيعة الحال لا يكتب له النجاح وتكون النتائج وخيمة، الأمر الذي أدى إلى عشرية سوداء في الجزائر جاءت على الأخضر واليابس راح ضحيتها 200ألف نسمة ومئات من المليارات من الدولارات. في مصر قسم العسكر البلاد إلى قسمين وفتح الباب على مصراعيه للثورة وللثورة المضادة والفتنة والأعمال الإرهابية والإقصاء والتهميش. فالديمقراطية هي سلوك حضاري بالدرجة الأولى يعتمد على قبول الربح والخسارة وعلى احترام الآخر واحترام وجهات نظره وأطروحاته، فالفضاء السياسي التونسي يحتوي على العلماني وعلى الإسلامي وعلى الوسط واليسار...إلخ، الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عندما نتكلم عن الممارسة السياسية والفعل السياسي وصناعة القرار في تونس، فعندما يكون رئيس الحزب الحاكم مستعد لإشراك الفرقاء السياسيين في الحكم هذا يعني أن هناك إيمان راسخ بالعمل مع الآخر من أجل بناء البلاد، وهنا نلاحظ أن الجميع كان ينادي بأن تونس هي فوق كل اعتبار، كسبت تونس الرهان وبرهنت للعالم أنها قادرة على ضم كل الأطياف السياسية في الفضاء السياسي الواحد من علمانيين وإسلاميين لبناء تونس ما بعد الثورة، فالأهم الآن هو الرجوع إلى مطالب الثورة وإلى شباب سيدي بوزيد لتوفير مناصب الشغل والحياة الكريمة للشعب التونسي في جو الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. فحزب نداء تونس بحاجة إلى استخدام كل القوى السياسية في الفضاء السياسي التونسي للخروج إلى بر الآمان. فالشارع التونسي اليوم يشتكي من غلاء المعيشة ومن البطالة ومن تدفق مئات الآلاف من الليبيين إلى تونس ومن أخطار عديدة بسبب تدفق الأسلحة من عدة جبهات ومن الدول المجاورة خاصة ليبيا، فالتحديات كبيرة وما ينتظر تونس أكبر بكثير من كسب رهانات الانتخابات التشريعية، ببلوغها طور التناوب على السلطة، ودخولها مرحلة جديدة قائمة على قطبين سياسيين، فإن مستقبل تونس يرتبط اليوم، وبشكل وثيق، بقدرة القوتين المهيمنتين على الفضاء السياسي في البلاد، "نداء تونس" و"النهضة"، بقبول بعضهما البعض والعمل من أجل تونس لا غير وليس المصالح الضيقة لجهات معينة، فالشعب التونسي برهن على نضجه وقام بدوره بكل مسؤولية حيث تجنب الفوضى والعنف والشغب وأستطاع أن يتجنب فوضى كانت قادرة على أن تعصف بجميع الأحلام في فترة ما بعد الثورة، فمثلما نجح من قبل في انتخاب مجلس تأسيسي قام بإصدار دستور جديد للبلاد، هاهو اليوم ينخرط في مرحلة جديدة تتميز بالتناوب الديمقراطي السلمي على السلطة، تناوب هو الأول من نوعه في بلدان "الثورات العربية". ستكون المرحلة القادمة بالنسبة لحركة النهضة بمثابة الاختبار، فهي مطالبة بالتعلم من الأخطاء وإدراك التحديات الكبيرة التي ستواجهها سواء بالحفاظ على قاعدتها أو العمل مع قوى سياسية قد تختلف معها في الرؤى والأيديولوجية، الأهم أن الفضاء السياسي في تونس يتسع للجميع والمهم هو الميدان والانتقال بتونس من عهد بن علي، عهد الفساد والتسلط وإهدار المال العام إلى عهد جديد تسوده الشفافية والديمقراطية والتعددية، فبالانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر القادم ستكمل تونس مشروعها الديمقراطي وبناء مؤسساتها الدستورية ويبقى على الجميع العمل في الميدان، فالشارع لا يؤمن بالشعارات والوعود والمشاريع والبرامج بل يؤمن بالميدان وبالنتائج وبما سيتحقق من استجابة لمطالبه وحل مشاكله.