12 سبتمبر 2025
تسجيلنجاح "الجزيرة" نجاح لكل إعلامي حر وشريفلم نسمع أن دولة عربية سحبت سفيرها من بريطانيا احتجاجاً على ما تبثه BBC ؟لماذا ملف خاص عن قناة الجزيرة؟ هل تستحق هذه القناة تخصيص كل هذه الصفحات من أجلها؟ ولماذا «الجزيرة» دون غيرها؟قد تتبادر هذه الاسئلة وغيرها الى ذهن كل من يقع تحت يديه هذا الملف؟ليس من اجل "سواد" عيون «الجزيرة» قمنا باعداد هذا الملف، فليس تطبيلا لهذه القناة ـ التي تحتفل اليوم بذكرى انطلاقتها العاشرة - اعددنا هذا الملف، بل جاء الاعداد لكونها شكلت - ومازالت - ظاهرة اعلامية في عالم عربي مقموعة وسائله الاعلامية من المحيط الى الخليج، وان تفاوتت نسب "القمع" من مكان لآخر."الجزيرة" منذ ولادتها الطبيعية خرجت عن المألوف الاعلامي العربي، وكسرت ما هو محظور في الاعلام الرسمي العربي تناوله، وحركت المياه الراكدة، التي تحولت الى مياه "آسنة" في الاعلام العربي، وفتحت الباب امام تحركات اعلامية في بعض الأماكن، ورفعت سقف الحرية المتاحة، بل اوجدت سقفا جديدا، وخلقت حرية لم تكن موجودة بالاساس لدى الانظمة العربية، التي حاولت وضع الاعلام في أحد "جيوب" الحكم، ليسبح بحمد الحاكم ويقدس له ليل نهار، حتى سقط الاعلام العربي من عيون المواطن العربي، وباتت قبلته الاعلام الغربي، ليستقي منها اخبار وطنه الصغير والكبير. نعم المواطن العربي لم يكن يثق في اعلامه المحلي او العربي، لأنه لم يكن يعلم بما يدور في وطنه، ولايعرف ما يحدث في الشارع الخلفي لمنزله، الا من الاعلام الغربي، بينما اعلامه المحلي منشغل بتقديس المسؤول، لذلك كانت الموجات الاذاعية والقنوات التليفزيونية والفضائية الغربية - على الرغم من كل سلبياتها - الملجأ للمواطن العربي من "قصف" الاعلام العربي الرسمي.كلنا يذكر جيدا الاحتلال العراقي الغاشم لدولة الكويت وحرب الخليج الثانية عامي 1990 و1991، فمن اين كنا نستقي الاخبار ونتابع الاحداث الجارية على الجبهة او من داخل العراق؟كانت CNN ومراسلها الحربي الشهير بيتر آرنت هي القناة المفضلة بالعالم العربي، فلا تدخل منزلا او مجلسا او مكتبا، إلا كانت هذه القناة حاضرة، فما الذي تغير في الحروب التي اتت منذ عام 1997، وميدانها كان فلسطين وأفغانستان والعراق ولبنان، كانت "الجزيرة" هي الحاضرة وبقوة وفي كل مكان، لم يقتصر حضورها على المجالس والمكاتب والمنازل، بل تعدى ذلك الى المقاهي والاماكن العامة، الى الانسان البسيط في منزله المتواضع، «الجزيرة» هي الحل.ليس هذا فحسب، بل ظل الاعلام العربي - ولا يزال في غالبه - متلقيا للاخبار من وسائل اعلام غربية، دون ان يصنعها او ينقلها من مصدرها الرئيسي، الى ان جاءت «الجزيرة» - وهذا ليس مدحا فيها انما واقع معاش - التي غيرت الموازين، وغيرت من اتجاه الاخبار، فبدلا من اتجاه واحد، اصبح اليوم يسير بنظام التبادل، وباتت هذه القناة مصدرا للاخبار ليس للاعلام العربي فقط، بل ان الاعلام الغربي اليوم يستقي من "الجزيرة" اخباره، اليس هذا انجازا للاعلام العربي لم نكن نحلم به الى وقت قريب؟لم تكن الشريحة الواسعة من المتفائلين بـ "الجزيرة" عند مقدمها - وربما حتى القائمين عليها - ان تحقق هذه القناة كل هذا النجاح، وان تكتسح الساحة عربيا وعالميا بالصورة التي هي عليها اليوم في عامها العاشر، فما الذي ساعد في تحقيق كل هذه النجاحات في سنوات محدودة نسبيا، فالسنوات العشر اذا ما قيست بعمر فضائيات اخرى موجودة على الساحة، وسبقت "الجزيرة"، هي قصيرة؟هناك اكثر من سبب باعتقادي ساعد على مضاعفة هذا النجاح، من بينها المصداقية العالية لما تبثه القناة، بعيدا عن التحيز او الارتماء في احضان جهة ما، او معاداة جهة اخرى، اضافة الى الشفافية في عرضها وتناولها لكل القضايا.المهنية العالية التي يتمتع بها الزملاء العاملون بالقناة، والاحترافية في صياغة الموضوعات التي يتم تناولها.الصلاحيات التي تتمتع بها الادارة التي تتولى العمل الميداني والاشرافي، بعيدا عن تدخلات مجلس الادارة، وان كان الاخير يرسم السياسة العامة، والمحددات التي تسير عليها القناة، ويضع الخطط المستقبلية، الا ان اعطاء مجلس الادارة الصلاحيات للادارة التنفيذية لادارة المعركة الاعلامية اليومية - ان صح التعبير - ساهم بشكل كبير في تفوق "الجزيرة" على فضائيات عربية عديدة، وتحقق الريادة.عدم الرضوخ للتهديدات التي تلقتها من دول شتى، عربية - غربية - امريكية، وعدم الالتفات الى اغلاق مكاتبها في عواصم عربية مختلفة.الروح القتالية العالية، والجاهزية التي يتمتع بها العاملون بالقناة، بالداخل وعلى جبهات القتال ـ المراسلون ـ الذين ضحوا بدمائهم من اجل حرية الكلمة، وايمانا بالرسالة التي يؤدونها، فسقط منهم الشهداء، وسجن منهم من سجن، وقصف مقراتها بالصواريخ والقنابل، ولكن لم يفت كل ذلك في عضد "الجزيرة" او العاملين فيها، ولم يغير من نهجها في تناولها للاحداث.ولكن قبل هذا كله، هناك عنصر هام في نجاح «الجزيرة»، ويشكل ركيزة اساسية فيما وصلت اليه، وما حققته من مكاسب، وهو ما يتعلق بالبلد المضيف - قطر - لهذه القناة، فعلى الرغم من "الصداع" الذي سببته "الجزيرة" لقطر، الا ان القيادة القطرية ممثلة بسمو الأمير المفدى وسمو ولي عهده الامين، ايمانا بحرية الكلمة، ابت التدخل في سياسة القناة، او فرض توجهات عليها، او تحديد ما هو قابل للنشر وما دون ذلك، او الرضوخ لضغوطات خارجية، على الرغم من وصول هذه الضغوطات الى اغلاق السفارات، الا ان كل ذلك لم يغير من نهج القيادة القطرية في تعاملها مع قناة تبث من أراضيها، وتعتبر ضيفة عليها، وليس من عادة العرب الاصلاء ايذاء الضيف او التدخل بشأنه.ولو كانت هذه القناة موجودة على ارض عربية اخرى - هذا اذا افترضنا وجودها اصلا - لما استطاعت ان تحقق "عُشر" ما حققته، وهذا ليس مدحا في قطر، ولكن من المؤكد ان العاملين بـ "الجزيرة" يعرفون جيدا قدسية الوعد الذي قطعته القيادة القطرية على نفسها باحترام حرية الكلمة.قد يقول قائل: وماذا عن الدعم المالي، والميزانية المخصصة لـ «الجزيرة» من الحكومة القطرية، ثم تقولون لا علاقة لنا بالقناة؟سؤال مشروع، ولكن هل الدعم المالي يفرض رقابة على القناة، او التدخل في سياستها التحريرية؟ليس معنى انك تقدم دعما ماليا لفرد او جهة ما، انك تفرض عليه شروطك، واذا كان هذا هو المفهوم السائد عند الدول العربية التي "تدفع" لوسائل اعلام ولاعلاميين من اجل "السكوت" عنها وعدم فتح ملفاتها "العفنة"، فان قطر ليس لديها ما تخفيه او تخاف منه، وتتعامل مع مختلف القضايا بكل شفافية، ومن فوق الطاولة، وتقدر للاعلام دوره، والاعلاميين رسالتهم الجليلة، وترفض مقايضة الكلمة بالمال، وهي عند وعدها وعهدها، لا تتزحزح عن مواقفها.ثم لماذا لا يوجه هذا السؤال مثلا الى الحكومة البريطانية التي تقدم دعما ماليا، وتخصص موازنة رسمية لهيئة الاذاعة البريطانية، وفي الوقت نفسه لا علاقة للحكومة البريطانية بالسياسة التي تنتهجها الهيئة، فلماذا لا نرى اعتراضا عربيا على الحكومة البريطانية؟ ولماذا لا نرى سحبا للسفراء "النشامى" العرب من العاصمة البريطانية لندن على ضوء ما تبثه BBC ، وما اكثر ما تبثه هيئة الاذاعة البريطانية عن العواصم العربية من موضوعات مختلفة هي من المحرمات في دول عربية، نسمع صراخها فقط عندما تذكر "الجزيرة" قضية هي مثارة، او تستضيف رجلا "منصفا" ليبدي رأياً.ان هذه الدول العربية التي يعلو صراخها كلما جاءت "الجزيرة" على قضية فيها، او تحدث احد مواطنيها برأي غير "مرغوب" بسماعه، ينطبق عليها قول القائل "أسد عليّ وفي الحروب نعامة..".لم نسمع يوما ان دولة عربية قامت بسحب سفيرها من العاصمة البريطانية لندن، او حتى قدمت احتجاجا - ولو على استحياء - على برنامج ما او خبر بث في الـ BBC، فلماذا تسارع هذه الدول في سحب سفرائها من قطر كلما جاء خبر في نشرة، او برنامج او اتصال هاتفي لمواطنيها؟، علما أن قطر تعلن ليل نهار انه لا علاقة لي بـ "الجزيرة"، ولم يبق امام قطر الا ان تنشر اعلان "تبرئة" من هذه القناة، حتى وان فعلت ذلك فان الانظمة العربية لن تقبل بذلك، فغير "رأس" الجزيرة لن تقبل به هذه الانظمة.عالم عربي لا يطيق سماع الحقيقة، ولا يطيق ان يرى حرية متاحة في بلد عربي آخر، لأن وجود هذه الحرية في بلد عربي يكشف "سوءة" الآخرين، وما اكثر "سوءات" الانظمة العربية.ان نجاح "الجزيرة" هو نجاح لكل اعلامي عربي حر وشريف، ويؤكد ان الاعلامي العربي قادر على تحمل المسؤولية وتأديتها على اكمل وجه، وقادر على مواجهة التحديات ايا كانت اذا ما منح الصلاحيات، وقادر على ان ينافس المؤسسات الاعلامية الغربية، بل ويتجاوزها ويتفوق عليها.لا نقول إن "الجزيرة" خلت من السلبيات، بل تعرضت مسيرتها لذلك، وطبيعي ان تقع فيها، ولو لم تقع فيها لما حققت هذا النجاح.يحق لـ "الجزيرة" ان تحتفل اليوم بـ 10 سنوات من الريادة والتميز، ولكن يجب على القائمين عليها ان يضعوا نصب اعينهم ان الطريق مازال طويلا، وان العقبات الحقيقية قادمة، وان "المنغصات" التي ستعمل بعض الانظمة على وضعها ستتواصل، وان الضغوطات ستزداد، ولكن بما انهم قد حملوا راية "تحرير" الاعلام العربي من سلطة الانظمة، فان عليهم ان يتحملوا ما قد يعترض طريقهم، وما سيلاقونه من اذى، وان يعرفوا جيدا ان "الشجرة المثمرة هي التي ترمى بالحجر".نتطلع لأن تحتفل "الجزيرة" بعامها الـ 20، وقد انتشرت "الجزر" - اقصد الفضائيات على غرار هذه القناة - في جميع العواصم العربية، فهل يحق للمواطن العربي ان يحلم بذلك؟