12 سبتمبر 2025
تسجيلبعد الزيارة التي قام بها سمو الأمير لغزة قال متحدثون في السلطة الفلسطينية كلاما كثيرا في نقد هذه الزيارة ورفضها وتأويلها وتلمس سوء الظن حولها.. وبصرف النظر عما قالوا فقد لفتني في ذلك أمران اثنان ؛ الأول: جرأتهم على الإساءة للزيارة والزائر والمزار وأن يكون ذلك في الإعلام الرسمي وبتعبيرات فجة بعيدة كل البعد عن اللياقة والذكاء الدبلوماسي فيما هو أشبه بحرق السفن مع الجميع.. والثاني: انصباب تعليقاتهم وتحليلاتهم على المقارنة بين فتح وحماس وبين السلطة والمقاومة على أساس إنكار وجود حماس كمشروع وكرؤية تؤطر مسيرة وإنكار أن غزة يمكن أن يكون لها مستقبل من دونهم وأنها لن تكون إلا ميتة سياسيا وأمنيا واستراتيجيا.. بالتالي فهي لا تستحق الاهتمام الرسمي بالأخص من العرب الداعمين للقضية.. وأقول: بداية لا بد من تأكيد أن الشعب الفلسطيني إنما حقق ما حقق من مكان على الخريطة السياسية ومن مكانة في الاهتمام العالمي ليس بالرضا الصهيوني ولا بالمناكفات والانفكاك بين حركة فتح وبقية الفصائل وبالأخص حماس، ولا بتسيدها عليهم.. ولكن باستثمار كل دعم لأي فصيل مهما كانت جهته أو غايته أو حجمه وتجيير ذلك من بعد من فصائلي واتجاهي خاص إلى ثوري ووطني عام عبر منظومة قيم ثورية ورؤية وطنية جامعة وباجتماع غزة مع الضفة واجتماع الخارج مع الداخل وتلاحم الاتجاهات والفصائل فكان ابن أي فصيل فيه جنبا إلى جنب مع أخيه في الفصيل الآخر، يخاف عليه ويحميه ويطببه " ويقطع اللقمة عن رقبته ليطعمه " في صيغة ملحمية تلاحمية صاغها قادة استراتيجيون فهموا الواقع ومعادلات بقاء الاحتلال فلم ينشغلوا بالقليل عن الكثير ولا بمواضع الاختلاف عن أوجه وإمكانات الاتفاق.. فتجلت الهوية الوطنية الفلسطينية في أزكى صورها وأعظم تجسداتها ما أكسبها وأكسبهم ثقة الأنصار واحترام الخصوم، وصار الاحتلال يحسب ألف حساب لكل يوم يزيد في عمر هذا التلاحم الوطني والأخلاقي.. وليس ينسى الشعب الفلسطيني ما كان يردده " الهالك " رابين في تبرير لجوئه للتسوية وتقديم التنازلات بأن كل محاولاته إخضاع الشعب الفلسطيني باءت بالفشل.. ولم يتحول حال الشعب الفلسطيني إلى ما نراه اليوم ليصير بلا وزن ولا قيمة، ولم تتلاش البرامج السياسية والمنظومات الفكرية الداعمة لمشروع تحرره، ولم يرتح العدو ويصبح احتلاله أرخص الاحتلالات التي عرفها التاريخ إلا بعد أن أزيحت تلك القيادات بالاغتيال أو أهملت وتجوهلت وركنت كعرفات والقدومي وهاني الحسن ونبيل شعث وأمثالهم.. فيما تصعّدت أو أصعدت شخصيات كانت دائما ثانوية ؛ انشغلت بعد ذلك بالصغائر، ودارت حول ذواتها ومشاعرها وشهواتها، ولم نرها تحسن إلا القدح والردح في جهة الوطن، بقدر ما تجيد المجاملة والموادعة في جهة العدو المحتل الخبيث.. فدفعت الفصائل والاتجاهات – التي لا تعتمد في وجودها عليهم - دفعا لمنافستها ومناكفتها وخوض المعارك الجانبية والبينية ضدها.. وصار يتسلى العدو بالنظر إليها ويشغل إعلامه وعملاءه في استغلالها والتصيد فيها.. وصولا للانقسام البائس.. هؤلاء هم الذين أطلقوا التصريحات الأخيرة " المسيئة " ضد قطر، وهم الذين يحرقون سفن المصالحة مع حماس، ويبدو أنهم يحضّرون لحرق سفنهم مع مصر أيضا.. المشكلة في هؤلاء أنهم دائما لا يستوعبون الأمور، وإن فهموها فمتأخرا.. ولنا أن نتساءل: هل كان أداؤهم في التعامل مع زيارة سمو الأمير لغزة هو أفضل ما يمكن وأحسن ما يستطيعون؟ وهل رفضهم أن يرافق السيد " عباس " سمو الأمير في الزيارة قد عاد على القضية وعلى السلطة وعليهم بخير ما؟ أليس لو جاء معه لناله ونالهم ونال سلطتهم شيء وربما كثير من خير هذه الزيارة؟ أليس كانت مرافقته ستقرب من المصالحة؟ أليست كانت ستضع الأمير في صورة رام الله وزيارتها ورفع ميزانها؟ أليست كانت الأربعمائة وخمسين مليون دولار التي قدمت لغزة ستقدم لهم - أو على الأقل - سيشاركون في الإشراف على قبضها وإنفاقها؟ وهل يليق أن تقدم لسواهم في حال وجودهم؟ وهل كانت الزيارة ستحمل معنى دعم الانقسام - الذي يدعون – إن كانت تحمله؟ أم كانت لتحمل معاني الوئام والالتحام والمصالحة والمحبة؟ وهل كان سيأتي أحد من الرسميين لغزة - من بعد - إلا برفقة السيد " عباس " الذي سيكون قد اختط رفقته كسُنَّة ماضية في مثل هذه الزيارات؟ ثم تلك التصريحات الرسمية وشبه الرسمية المسيئة والمسفة التي أطلقوها عبر وسائل إعلامهم ؛ هل أخافت قطر منهم أو من تكرار الخطوة تجاه غزة في المستقبل ؛ أم ستدفعها " لو كانت تنطلق من ردات الفعل " إلى المزيد من تبني غزة ومشروعها ومقارباتها؟ لست أدري كيف يقع هؤلاء في أخطاء وخطايا استراتيجية كهذه! ولا أدري كيف يقوّمون الأمور، ولماذا لا يراجعون أنفسهم! ولا أدري علام يعوّلون! أتمنى ألا يتوهم أحد أن سفاهاتهم هذه تنطلق في موقف وطني أو تستند لإحساس بالرجولة والثورية، أو أنها تأتي في سياق رفض بيع المواقف!! على العكس تماما فقد تجاوزت هذه القيادات كل معاني الثورة والرجولة في مكان آخر ومنذ زمن بعيد يوم ألقت رحالها في حضن الاحتلال، ويوم صارت مجندة يهودية عمرها تسع عشرة سنة تتحكم في سفر وتنقلات كبرائهم، ويوم صارت موازناتهم وكل مشروعهم تفضلا من الاحتلال وما يتكرم به ؛ كما قالوا هم في تصريحات رسمية - أيضا -.. وأما مقارنتهم غزة بالضفة توصلا إلى أن غزة وحكومتها ومقاومتها لا تستحق الدعم والمراهنة.. فالأكيد أيضا: أنهم لا يقرأون الوقائع بمصداقية مع أنفسهم وأنصارهم.. فالعداء في غزة للاحتلال ليل نهار، وأمل أبنائها في المقاومة للتخلص منه لحن نشيدي يغنونه ويترنمون به صباح مساء، وما يزور حكومتها أحد من أطراف الدنيا الأربعة إلا وتذكره وتذكر عبره العالم بقضيتها ومظلمتها، والحكومة هناك لا تقيم علاقة ولا تدشن مشروعا أو بنية تحتية إلا في سياق هذه المواجهة.. ولئن بحثت عن الميثاق الوطني الفلسطيني الذي توارثته الثورة عبر كل أجيالها، والذي يعتبر فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها ومن رفح إلى لبنان إقليما واحدا، والذي يعتمد الثورة والكفاح المسلح طريقا أوحدا للتحرير وتقرير المصير فلن تجده إلا عندها.. أما إن سألت عن النزاهة والشفافية وعن التضحية والعدالة في شخوص القائمين عليها فلن تجد عثرة واحدة تسجل على أنها انحراف ممنهج " يطبطب عليه " أو ترمم وجاهة من يمتهنه.. ثم يطلع علينا أخيرا من يوزع التزكيات والوطنيات على هواه ووفق مكان تواجده، وعلى ميزان مصالحه يرجح نفسه المهزومة المأزومة الأكالة الشرابة على المقاومة، وليتوهم أنه الوحيد دهره والفريد عصره الذي طنت بذكره الأمصار وضنت بمثله الأعصار النحرير الذي لا يشق له غبار، وليقول إن المقاومة لا تملك مشروعا ولا مشروعية! آخر القول: للأسف ألف مرة أن الإخوة في قيادة السلطة لا يزالون لا يرون أبعد من أنوفهم، ولا يزالون يقعون في ذات الأخطاء ونفس الخطايا منذ عرفناهم ؛ فقد ظلوا زمنا ينكرون وجود حماس، ثم لما اعترفوا بوجودها قاموا يتهمونها بأنها صنيعة الاحتلال.. فيما الشعب الفلسطيني كان ينحاز كل يوم لها ولفكرها وأيديولوجيتها حتى جاءت انتخابات ال2006 التي فازت فيها بالتشريعي والحكومة فذهلوا عن أنفسهم ووقع لهم من الحيص والبيص ما لم يحسنوا لملمته فأوغلوا في دماء المقاومة التي ظنوها لا تأخذ في أيديهم إلا " غلوة " (فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ) ووقع الانفصال.. ثم قاموا يحرضون عليها ويرفضون كل صلح معها حتى فاجأتهم بنصر 2008-2009 ونولها الاحترام والاهتمام ففطنوا بعد ذلك لا قبله للمصالحة.. ثم ظلوا يتلكأون ويناورون حتى سقط حسيبهم وولي أمرهم في مصر وقامت دولة الثورة وتعززت حماس وصارت تستقبل الزعماء ويستقبلها الزعماء.. فلا أحد يصدق عليهم والحال هذه إلا قوله تعالى (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وقوله (إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)..