13 سبتمبر 2025
تسجيلبالغ المجتمع الدولي، لا سيما دوله الكبرى، في التهرب من مسؤولياته، وفي التخفي وراء استبسال الشعب السوري في الدفاع عن كرامته ومستقبله، لم تكن الجمعية العامة للأمم المتحدة المناسبة الوحيدة لإظهار عجز الأسرة الدولية عن وقف نزيف الدم في سوريا، فالشهور الطويلة الماضية كشفت عمق الخلل في النظام الدولي وفي آليات عمل مجلس الأمن، لكنها كشفت أيضاً عن أن انتهازية دولة واحدة مثل روسيا لا تبرر سلبية دولة أخرى هي الولايات المتحدة. ذاك أن التذرع بالانتخابات الرئاسية يمكن أن يفهم في حد ذاته، لكنه ينفي في الوقت نفسه، ما يقال عن دولة المؤسسات وثوابت السياسة واستمراريتها، وإلا فما الذي يفسر أن شلل الرئيس المرشح يعطل فاعلية الدولة العظمى الوحيدة، وإذا كانت هذه الحال كل أربع سنوات فما الذي يبرر جمود الأسرة الدولية بمختلف مكوناتها في انتظار تمرير الاستحقاق الانتخابي هذا – اذ ان الوقت المستقطع يمكن أن يشكل فرصة سانحة لكل الجرائم والمآسي، ولكل المساومات والابتزازات، وهذا ما حصل ويحصل بالنسبة إلى المحنة السورية. كانت السمة الغالبة على الجمع الدولي العارم في نيويورك، خلال الأسبوع الماضي، ندرة الأفكار والأطروحات للتعامل مع المقتلة اليومية التي يديرها النظام السوري، لذلك هيمنت الثرثرات المكررة، استبعاد التدخل الخارجي وكأنه مطروح فعلاً، تفضيل الحل السياسي وكأنه متاح فعلاً، ترك الشعب السوري يقرر وكأنه كان يقرر دائماً إلا أن انتفاضته على النظام سلبته هذا الحق، ضرورة وقف العنف وكأنه لايزال خياراً ممكناً، دعم مهمة المبعوث الدولي – العربي الأخضر الإبراهيمي وكأن مهمة سلفه كوفي أنان لم تترك دروساً ينبغي التعلم منها، وبالأخص تعلم أن النظام وحلفاءه لن يدعموا أي حل لا يرجح بقاء بشار الأسد بشكل أو بآخر رغم كل الجرائم التي ارتكبها. لذلك شكلت دعوة أمير قطر إلى تدخل عسكري عربي صدمة للمتجادلين في نيويورك، فالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ذهب إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه أي مسؤول عربي، وأطلق ما يشبه الصرخة الضرورية من على منبر الأمم المتحدة بالذات، للتعبير عن الألم مما يحصل لسوريا دولة وشعبا وجيشا ومجتمعا، فلو لم يكن النظام نفسه طرفا معاديا للشعب، لوجب أن يبادر هو إلى إطلاق مثل هذا النداء إلى العرب لإنقاذ بلده من الاقتتال الداخلي الذي ابتلي به، لكن الواقع ان سوريا الشعب ابتليت بهذا النظام وصبرت عليه عقودا، إلى أن قالت له كفى. وسواء كان اقتراح أمير قطر قابلا للتطبيق أم لا فإنه أصبح مطروحا وكان صاحبه واضحا في أنه يستحق فزعة عربية من الجميع لإنقاذ سوريا وشعبها إن لم يكن بدافع الواجب الذي يحدده ميثاق الجامعة العربية فأقله بدافع الحس الإنساني، وبديهي أن أمير قطر لم يكن بصدد إعلان حرب، ولم يكن يفكر بعمليات قتالية ينبري إليها العرب لإسقاط مزيد من الضحايا – كما سارع الأمين العام للجامعة العربية إلى التوضيح – لكنه كان يطالب بعمل استثنائي حازم لإشعار المجتمع الدولي بأن الفشل في إنهاء المأساة السورية ليس خياراً بل مساهمة في التقتيل والتدمير. إذن، فهي دعوة إلى العرب جميعاً، ودولهم الكبيرة والأصغر، المؤثرة والأقل نفوذا، إلى التحرك الآن بعدما غدا الوقت الضائع، ترخيصا للإمعان في سفك الدماء. كثيرون من العرب والغربيين رأوا في الحاصل في سوريا وكأنه ضربة لـ"الربيع العربي" ووقفاً قسريا لاندفاعته أو كأنه كان مجرد فقاعة واهية أو انفعال آني أجوف، لكن الشعب السوري بذل ما يستطيعه حين كان أعزل ثم حين اضطر لحمل السلاح، ولا شك أن "ربيعه" وكل "ربيع" آخر أصبح مسؤولية عربية عامة ينبغي ان يحرص الجميع، دولا وشعوبا، على إنجاحها ودفعها إلى غاياتها الحقيقية لأن أي تغيير صائب هو مصلحة للجميع، وبالنسبة إلى سوريا تحديدا، هناك مسؤولية مضاعفة، نظرا إلى ما تمثله موقعا وتاريخا وما تعرض على أيدي هذا النظام للإساءة والمهانة. لعل أكثر المجادلات سقماً وتضليلاً تلك التي تناولت مسألة "التدخل الخارجي" في الأزمة السورية، فالذين يعارضونه عن حسن نية يتجاهلون أمرين: الأول أن النظام كان من أول من هاجمه بذريعة أن ثمة "مؤامرة" ضده، واستخدمه لتبرير القتل، بل لا يزال حجته الأساسية، والثاني أن حلفاء النظام، روسيا وإيران والصين، يدعمونه في القمع الدموي ويجندون كل طاقاتهم ونفوذهم لدعمه من دون أن يعتبر ذلك تدخلا خارجيا، أما الذين يؤيدونه عن حسن نية أيضا فينطلقون من اعتبارين: الأول أن المهم وقف إراقة الدماء بأي وسيلة، وطالما أن النظام اتبعها نهجا ثابتا فلابد من وضعه عند حده. أما الثاني فهو أن الأصل في الحلول هو الحل الداخلي، لكن النظام أبطل أو عطّل كل الآليات الممكنة لحل كهذا، وهو لم يفعل ذلك منذ اندلاع الثورة ضده، وإنما عمل طوال عقود على قتل أي نقد أو حوار داخلي – وكل من تعاطى مع الأزمة، سواء كان وسيطا أو موفدا خاصا، خرج بانطباع مفاده أن النظام لا يملك سوى الحل الأمني ولا يرى خيارا سواه. لا أحد يحبذ التدخل الخارجي لذاته، ولعل مثالبه تفوق فوائده في كل الأحوال، لكن الأسوأ منه تمكين القاتل من مواصلة القتل ومنحه الفرصة تلو الأخرى حتى أصبح الآن لا يرضى بحصيلة أقل من مائة قتيل يومياً، إن لم تكن أضعاف هذا العدد، لذلك يفرض التدخل نفسه كأمر لابد منه في غياب أي حلول أخرى ممكنة، ولعل أمير قطر أراد على طريقته إبداء الاستياء من هزال الإرادة السياسية، خصوصاً لدى الدول الكبرى في "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" فأي فكرة مهما بدت صعبة أو حتى مستحيلة يمكنها أن تغير الواقع المسدود متى توافرت الإرادة السياسية لتحقيقه.