16 سبتمبر 2025

تسجيل

أخوك عضيدك

01 أغسطس 2019

تأمل المشهد التالي في قوله تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).  ماذا تلاحظ في الآية الكريمة؟ ربما تلاحظ مشهد الذهول والبحث عن النفس، أو النجاة بالنفس فقط يوم القيامة، يوم أن يذهل كل أحد عن أحب وأغلى ما لديه، أو ما كان عنده ويملكه في الدنيا.    مشهد الذهول، على رغم تأثيره يومذاك، ليس الذي أسأل عنه وأقصده، وإنما أعني من سؤالي أمراً آخر أريد به أن يكون أساس حديثي.. وحتى لا نطيل في الموضوع، لاحظ معي في الآية ترتيب الأرحام.     ستجد الأخ ثم الأم، وبعدها الأب، ثم بعده الزوجة وأخيراً يأتي الأبناء.  لاحظ أن الترتيب ذو مغزى ومعنى. الإشارة في الآية واضحة في الترتيب، تريد القول: إن قوة علاقة الإنسان بهؤلاء ودرجة القرب تتفاوت بحسب علاقة المرء بهم في الدنيا، وخاصة في وقت الشدة والحاجة. المرء منا في دنياه، ما إن يشعر بالحاجة لقوة ما أو ركن شديد يأوي إليه يعاضده في أي موقف صعب، تجده يلجأ إلى أخيه أولاً قبل أمه وأبيه أو صاحبته وبنيه.       موسى عليه السلام حين أراد المعونة من الله في تحمّل الرسالة وتبعاتها، قال (واجْعل لّي وزيرًا من أَهلي، هارُون أَخي، اشْدُدْ بهِ أَزري، وأَشْركْهُ في أَمْري).  لم يقل أو يسمي أحداً من أقاربه أو أرحامه خارج عائلته أو أصدقائه، بل قال: هارون أخي.. لماذا؟ ليسنده ويشد الظهر به ويشاركه الأمر والحمل الثقيل، الذي لا يقدر عليه سوى الأخ، والأخ فقط.    استجاب الله عز وجل لطلب موسى - عليه السلام - وقال له (سنشد عضدك بأخيك) أي نقويك ونعينك بأخيك. تقول العرب - كما جاء في تفسير الطبري - إذا أعزّ رجلٌ رجلاً وأعانه ومنعه ممن أراده بظلم: قد شدّ فلانٌ على عضد فلان، وهو من عاضده على أمره: إذا أعانه. ومثلما أن الأخ يلجأ إلى أخيه وقت الحاجة ليشد به الظهر كما تقول العامة، فإن الأخ أيضاً وبحسب الفطرة السليمة، يحب الخير لأخيه، فالأخ مثلما أنه رمز للعطاء وقت الحاجة، فإنه يستحق كذلك أن ينال التكريم ويأخذ النصيب الأكبر منه، ويتضح هذا جلياً في المثال مدار الحديث. فحين كلف الله موسى بالرسالة -  كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله -  ووجد في نفسه بعض العيوب وهو صغير في بيت فرعون، مثل اللَثْغة التي أصابته في لسانه وجعلته ثقيل النطق لا ينطلق لسانه؛ أراد أنْ يستعين بفصاحة أخيه هارون ليؤيده، ويُظهر حجته، ويُزيل عنه الشبهات. ولقد كان بإمكان موسى - عليه السلام -  أن يطلب من ربه تصحيح عيوبه لتكون الرسالة شرفاً خالصاً يختص بهذا الشرف وحده. لكنه أحب لأخيه أن يشاركه في الرسالة لينال هذا الفضل والشرف والرِفعة (فأرسله معي ردءاً يصدقني)، والردء هو العون، أي عوناً لي حتى لا يُكذِّبني الناس، الذين قد يسهل عليهم تكذيب شخص في خبر ما، لكن أن يكذبوا شخصين في نفس الخبر، فهذا يصعّب الأمر بعض الشيء، بل إنه أدعى إلى التصديق من التكذيب.    الأخ هو الأب الثاني في العائلة، أو هو السند والظهر التالي بعد الأب، وخاصة الأخ الأكبر الذي يُعرف غالباً بأنه حامل الهموم والمشكلات نيابة عن الأب، سواء في حياته أو بعد موته. كما أن الأخ هو الملجأ بعد الله لأخيه، وإن كان الأمر ينطبق أيضاً بنسبة كبيرة مع الأخت، فهما مخازن أسرار المرء، وهما العون والعضد والنصير. علاقتك بهما تفوق أي علاقة أخرى. إنها تفوق علاقة المرء بالزوج أو الأبناء. تفوق أيضاً في جانب السند والتعاضد، العلاقة مع الوالدين. من هنا إن كان لك أخ أو أخت، فاحرص عليهما. عض عليهما بالنواجذ. لا تفرط في علاقتك بهما. لا تدع ما يتسبب في فتور العلاقة أو حدوث شروخات وتصدعات. لا تدع منفذاً للشيطان أن يدخل منه للتفريق بينك وبين أخيك أو أختك. أخوك هو مرآتك. ترى نفسك من خلاله. لكل قاعدة شواذ قد يقول قائل بأن هذا ليس صحيحاً دائماً، فأقول: نعم. هذا رأي صحيح وجيه. إذ كم رأينا بعض حالات، تجد الأخ بمثابة مصدر رئيسي للحزن والقهر والخوف وغيرها من سلبيات الحياة بالنسبة لبقية أفراد العائلة.     لكن وكما تقول العامة: إن لكل قاعدة شواذ. فهذا المثال السيئ للأخ أو تلك النوعيات من البشر، ليسوا هم الأصل. بل ما وصل أحدهم إلى ذاك المستوى من التعامل مع عائلته إلا وهناك أسباب متجذرة عميقة، على شكل مشكلات أو إساءات فهم لمواقف معينة في أوقات سابقة ماضية تم تجاهلها أو علاجها وتصويبها في حينها، فكانت عاملاً دفعت بهذا الأخ أن يتصادم مع الفطرة، والذي مهما تبلغ مساوئه، إلا أنه في لحظة حياتية معينة ستجده قد عاد إلى رشده وشعر بخطئه. وربما حينذاك يكون الوقت قد فات، أو ربما لم يفت بعد، وليس هذا بالمهم هاهنا، بقدر الإشارة إلى أن الأخ لا يمكن أن يتصادم إلى ما لا نهاية مع أخيه أو عائلته، فهكذا هي الفطرة الإنسانية..   إن قابيل رغم كل ما كان بينه وبين أخيه هابيل من شحناء وبغضاء أدت إلى الجريمة الأولى في تاريخ البشر، إلا أنه في لحظة الحقيقة والانتباه والعودة إلى الفطرة، وجد قابيل نفسه بعد أن ارتكب جرماً فادحاً، أنه لم يكن هناك ما يستأهل أو يستدعي القيام بذلك الجرم ضد أخيه، فأصبح من النادمين.   إن شعور الندم هذا هو الذي أعنيه بالفطرة، وهو دليل قوي على ما بين الإخوة من رباط صلب قد يهتز حيناً لكنه لا ينقطع، وهو ما يستدعي دوماً التنبيه إليه، وأهمية المحافظة على العلاقات الأخوية في العائلة الواحدة، وعدم المس بها أو تعريضها لمصالح شخصية ودنيوية عاجلة زائلة، والأمر نفسه مطلوب كذلك في العائلة الإنسانية الكبرى.              [email protected]