19 سبتمبر 2025
تسجيلأعلنت تركيا حرباً مزدوجة، واحدة على تنظيم "داعش" وثانية على منظمة حزب العمال الكردستاني. ربما يبدو ذلك مفاجئاً للبعض لكن التطورات السياسية التي شهدتها تركيا في الشهرين الأخيرين دفعت إلى تغليب الخيار الأمني على ما عداه في طريقة التعامل مع المستجدات. لكن من الواضح أن أنقرة تعطي، بما لا يقاس، الثقل الأكبر للحرب مع حزب العمال الكردستاني وليس مع داعش وهذا يتبين من طبيعة العمليات العسكرية وحجمها وأهدافها وطبيعة النقاش الداخلي في تركيا كما في البرلمان. يعرف الجميع أن عملية المفاوضات بين الدولة وبين الأكراد بزعامة عبد الله أوجالان قد بدأت قبل حوالي العامين ونصف العام. وساد كل هذه الفترة هدوء ووقف نار وحتى انسحاب بعض المقاتلين الأكراد من الداخل التركي إلى شمال العراق. ولكن في المحصلة ليس هناك من أي ترجمة عملية على الأرض لأي من المطالب الكردية. فلا اعتراف بالهوية الكردية في الدستور ولا إطلاق لمعتقلين ولا تحسين لظروف اعتقال أوجالان ولا موافقة على التعلم باللغة الكردية الأم في المناطق الكردية ولا منح حد أدنى من الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية. وأعقب رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان كل ذلك بإنكار وجود قضية كردية في تركيا بعدما كان قد اعترف بوجودها في العام 2005. رغم المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني فإنه مصنف منذ 30 عاما في تركيا منظمة إرهابية وهو كان يشكل بالفعل التحدي المصيري الأكبر على الدولة التركية ووحدة أراضي البلاد. غير أن التطورات في الشرق الأوسط كانت تنحو في اتجاهات لا تنسجم مع النظرة التركية إلى المسألة. ففي العراق رفضت تركيا الانضمام إلى التحالف الدولي الذي غزا البلاد في العام 2003 فقط، لأن تركيا كانت تشترط عدم إدراج الفيدرالية في الدستور المزمع إعداده. ولكن جرت الأمور رغما عن أنقرة ودخل التحالف العراق دون تركيا وتم إعداد دستور جديد مؤقت ثم دائم أعطى الأكراد فيدرالية أقرب إلى دولة مستقلة منها إلى أي توصيف آخر. وهذا كان ضربة قوية لنظريات الأمن القومي التركي. بعد ذلك انفجرت الحرب في سوريا، ومع تفاقم الأمور كان أكراد سوريا بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يترأسه صالح مسلم يغيرون المعادلات على الأرض وصولا إلى السيطرة على كامل الشريط الحدودي السوري مع تركيا من الحدود العراقية إلى مدينة عين العرب/كوباني إضافة إلى منطقة عفرين غربا. وعلى امتداد الحرب السورية كانت العلاقة بين أنقرة وأكراد سوريا متوترة رغم اجتماعات كانت تعقد بينهم. ولم تقبل أنقرة ولا في أي يوم بأن يكون أكراد سوريا جزءا من الائتلاف الوطني السوري. وكانت أنقرة تكتفي باستدعاء بعض الشخصيات الكردية السورية التي لا وزن لها على الأرض. أي بدلا من سياسة الاستيعاب مارست أنقرة سياسة الاستبعاد. مؤخراً في منتصف يونيو تقريباً تمكن أكراد سوريا من السيطرة على منطقة تل أبيض من تنظيم داعش بالذات ووصلوا بين كانتوني الجزيرة وكوباني. وكان التوقع أن الأكراد سيتقدمون للسيطرة على المنطقة الواقعة بين كوباني وعفرين وطولها مئة كلم ويقع قسم منها تحت سيطرة "داعش" والقسم الآخر تحت سيطرة جماعات معارضة، مثل الجيش الحر وجبهة النصرة وجيش الفتح المتعاونة مباشرة مع تركيا. لو حدث ذلك لكانت الحدود السورية مع تركيا من العراق إلى لواء الإسكندرون تحت سيطرة الأكراد ولانقطعت الصلة التركية بالداخل السوري بشكل كامل. الأتراك يعتبرون ذلك خطرا إستراتيجيا على علاقاتهم بالجغرافيا العربية، لذلك منذ أن سقطت تل أبيض وأنقرة تفكر بكيفية منع الأكراد من السيطرة على على المئة كلم المتبقية، ومواجهة هذا الخطر المحتمل الذي يخرجها من أن تكون لاعبا على الساحة السورية وفي المنطقة عموما. إعلان تركيا الحرب على "داعش" دغدغ مشاعر في الغرب عموما، فكانت بيانات التأييد لها. لكن تحول مسار الثقل الحربي التركي إلى مكان آخر أي ضد الأكراد أمر لم يستسغه الغرب فصدرت بيانات تدعو إلى التمييز بين داعش وبين الأكراد. صحيح أن حزب العمال الكردستاني مصنف في أمريكا منظمة إرهابية ولكن عناصره كانت تقاتل جنبا إلى جانب مع البشمركة وبحماية الطائرات الأمريكية ضد داعش لدى اقتراب الأخير وتهديده مدينة أربيل في العام الماضي. وقوات الحماية الكردية في سوريا المؤيدة بالكامل لأوجالان نجحت في تحرير مدينة عين العرب وتل أبيض رغم امتعاض تركيا فقط بفضل الدعم الجوي الأمريكي. وواشنطن لا ترى في حزب الاتحاد الديمقراطي السوري تنظيما إرهابيا رغم أنها تعرف أنه الشقيق التوأم لحزب العمال الكردستاني. لذلك فإن حرب تركيا على الأكراد في الداخل التركي وفي سوريا وفي جبال قنديل في شمال العراق محكومة بالفشل ولن تحظى بأي دعم دولي أو إقليمي ولن تحقق سوى المزيد من الكراهية بين الأكراد والأتراك. وما هو مطلوب أن تغير أنقرة نظرتها إلى كيفية مقاربة المشكلة الكردية في داخل تركيا وفي سوريا وعدا ذلك فإن النموذج الفيدرالي العراقي أقرب للتعميم في المنطقة من أي خيار آخر.