13 سبتمبر 2025
تسجيلفي كل أزمة تمر بها البلاد منذ سقوط النظام الديكتاتوري السابق ولغاية الأزمة الحادة الحالية التي تعيشها تونس، وأجبرت رئيس الجمهورية على طرح مبادرته المتعلقة بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، حيث حدّد موعد تشكيلها خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو الجاري، تدخل تونس في بازار مفتوح لتشكيل هذه الحكومة العتيدة من خلال ما يسمى بالحوار الوطني داخل الطبقة السياسية الحاكمة. بيد أن المتابع الدقيق للتجربة التونسية فيما يتعلق بتشكيل الحكومات، يكتشف أن هناك أطرافًا أخرى هي التي تساهم في عملية تشكيل هذه الحكومة أو تلك. فعندما دخلت البلاد التونسية في أزمة قوية عقب موجة الاغتيالات السياسية في سنة 2013، ومطالبة مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية برحيل حكومة الترويكا، عرفت تونس حوارًا وطنيًا بين الحكومة والمعارضة بقيادة الرباعي الراعي للحوار الوطني لإيجاد حلّ توافقي بشأن تشكيل الحكومة الجديدة، لكن ما راعنا في نهاية 2013، أن صحيفة «لوموند» الفرنسية كشفت في عددها الصادر يوم الاثنين16 ديسمبر 2013، أن دولا غربية ضغطت من أجل ترشيح وزير الصناعة في حكومة العريض مهدي جمعة رئيسا للحكومة القادمة. ونقلت لوموند أن سفير الولايات المتحدة الأمريكية وسفراء من دول الاتحاد الأوروبي التقوا في بداية شهر ديسمبر 2013 من أجل مساندة ترشيح مهدي جمعة لرئاسة الحكومة الذي لم يكن مرشحا على طاولة الحوار الوطني لا من الشق الحكومي ولا من شق المعارضة كما تشير الصحيفة الفرنسية إلى أن سفراء دول غربية عبروا عن انشغالهم بطول المشاورات في صلب الحوار الوطني دون الوصول إلى نتيجة وهو ما عبر عنه خاصة وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس يوم 5 ديسمبر 2013 عندما دعا للإسراع في مشاورات الحوار الوطني من أجل تركيز حكومة جديدة. السيناريو عينه يتكرر اليوم في هذه الأزمة الحالية، إذ إن من يقرر تشكيل الحكومة ليست الأطراف المشاركة في الحوار الوطني الذي ترعاه رئاسة الجمهورية مع عدد من الأحزاب السياسية الموجودة في الائتلاف الرباعي الحاكم، وفي المعارضة أيضا، وإنما هناك لفيف من التونسيين الذين احترفوا السمسرة في بازار السياسة، وانجذبوا إلى النمط الأوروبي - الأمريكي، وأصبحوا معجبين بإفرازاته الفكرية والثقافية إلى درجة الارتهان والذوبان في خدمة المشروع الغربي، بات يشكل «زبائنية تشكيل الحكومات»، من خلال إبراز السير الذاتية لعدد من الكوادر التونسية التي درست في الجامعات الغربية، وترشيحها لكي تتبوأ مراكز رئيسة في أجهزة الدولة التونسية، بدءا من رئيس الحكومة ومرورا بالوزراء، وكتاب الدولة، والسفراء وغيرهم.وترتبط هذه الفئة الانتهازية من محترفي صنع سياسة النخاسة في صالونات المناطق الراقية من تونس العاصمة، بالأجهزة الأمنية المتنفذة في الدولة العميقة، وبلوبيات الفساد ورجال الأعمال المتنفذين، وبسفارات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الإقليمية، إضافة إلى أنها تخترق معظم الأحزاب التونسية سواء منها الحاكمة أم في المعارضة، و باتت هي التي ترسم الملامح العامة للمشهد السياسي التونسي، وبالتالي تشكيل المجتمع السياسي التونسي، وفق ما تتطلبه استراتيجية وأهداف لوبيات الفساد ورجال الأعمال، وكذلك مصالح الشركاء الغربيين لتونس، والمؤسسات الدولية المانحة، من أجل السيطرة على مقدّرات الدولة التونسية، والتحكم في خياراتها الوطنية، الأمر الذي يقود إلى فقدان تونس لسيادتها الوطنية.فهذه الفئة من النخب التونسية لم تنتح علما للسياسة أو معرفة بل شاء لها أن تبقى ذات طبيعة محترفة للسمسرة، وتبرز وتتفرد بالتحكم في المشهد السياسي الوطني العام من خلف الستار، عبر مسكها بمقدرات مالية فكرية قضائية – عسكرية - صناعية - نقابية - جمعياتية – إعلامية …إنها تقوم بدور حكومة الظل غير المرئية للعامة من التونسيين. وقد ولدت هذه الفئة منذ أن كان الاستعمار الفرنسي جاثما على أرض تونس، ومع نشوء دولة الاستقلال التي كانت تعتمد تاريخيا على الكوادر المتخرجة من المدارس والجامعات الغربية، ولاسيَّما من المدرسة القومية للإدارة في فرنسا، وبقية المدارس العليا في المجال الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي في كل من بلدان أوروبا وأمريكا.ورغم إقرار الجميع سلطة ومعارضة بثقل الأزمة التي تعيشها تونس، مع وجود اختلافات بين الأحزاب والمنظمات الوطنية حول تشخيص الأزمة التونسية وحلولها المثلى، فإنه لغاية الآن لم يتم الاتفاق على اسم رئيس الحكومة المنتظر. ويتميز الاتحاد العام التونسي للشغل برؤيته بشأن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، والتي يجب أن تعمل على تحسين نسبة النمو المبرمجة في ميزانية 2016، وضبط إستراتيجيات عاجلة بخصوص القطاعات الحيوية الأربعة وهي: قطاع الفسفاط وقطاع السياحة والطاقة والنفط والفلاحة حسب مقاربة وفاقية وتشاركية مع الأطراف الاجتماعية. ويدعو الاتحاد في رؤيته إلى تفعيل مشروع الإصلاح الجبائي الذي وقع الاتفاق عليه مبدئيا في إطار الاستشارة الوطنية حول الجباية وتحميل الأطراف المعطلة لمسؤوليتها. ويطالب الاتحاد في إطار رؤيته بإحداث المجلس الوطني للحوار الاجتماعي وتفعيل عمل اللجان في صلبه. وتتناقض هذه الرؤية مع منظمة رجال الأعمال وحزب آفاق الليبرالي.أما الجبهة الشعبية التي تتزعم المعارضة في البلاد بنحو 15 نائبا في البرلمان، فإنها لن تشارك في حكومة الوحدة الوطنية لعدة أسباب من أهمها أن برنامجها لا يستجيب لمتطلبات المرحلة ولا يساهم في حل الأزمة التي تعيشها البلاد. وتؤكد الجبهة أن من بين الأسباب التي جعلتها لا تشارك في بلورة الحكومة هي الإملاءات الخارجية على تونس خاصة صندوق النقد الدولي من خلال خوصصة عدد من مؤسسات الدولة وهذا يمثل خطرا على الطبقات والفئات الشعبية الكادحة.تونس تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد أساسه التحرّر من التبعية للمؤسسات الدولية المانحة ولشركاء تونس من الدول الغربية، لأن التبعية قادت إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التونسية وفقدانها السيطرة على شروط إعادة بنائها من جديد بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق. فسياسات الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 ولغاية الآن، توضع انطلاقا من تلبية شروط المؤسسات الدولية المانحة، وليس انطلاقًا من تحقيق انتظارات الشعب التونسي، كما أن السياسات ترسم في ضوء تكريس الاعتماد على المعونات المالية والتكنولجية الغربية، لا اعتمادًا على تعبئة الموارد المحلية والادخار الوطني. وبالتالي فإن سياسات حكومة الوحدة الوطنية المقبلة، لا تطرح موضوع فك الأواصر مع نهج التبعية، من أجل وضع تونس على طريق التنمية الحقيقية، وإنما بهدف إيقاع البلاد في دائرة التبعية للمراكز الرأسمالية الغربية.