14 سبتمبر 2025
تسجيلبعد مضي سنتين على قرارها القاضي بأن الزواج ليس حكرا على أشخاص من جنسين مختلفين، اعتبرت المحكمة العليا الأمريكية أن الولايات التي لا تزال ترفض مثل هذا الزواج يجب أن تعترف به. وكانت نفس المحكمة قد أبطلت نهاية يونيو 2013 قانونا ينص على أن الزواج محصور بين الرجل والمرأة، وفتحت المجال بذلك أمام منح الحقوق الفيدرالية لكل الأزواج سواء أكانوا طبيعيين أو شواذا. ومنذ هذا القرار، ارتفع عدد الولايات التي تسمح بزواج الشواذ من 9 إلى 36 ولاية من أصل 50، وكل ما فعله القرار الأخير أنه ألزم الأربعة عشر ولاية المتبقية بأن تنضم إلى ركب المجيزين.عقب صدور القرار سارع الرئيس الأمريكي إلى إبداء سعادته، واصفا إياه بأنه "خطوة كبيرة في المسيرة نحو المساواة". وتوجه بالتهنئة إلى جميع الأشخاص الذين "أمضوا عقودا في العمل والصلاة من أجل حصول التغيير". ورغم اعتبار أوباما القرار بمثابة نصر سياسي له ولحزبه من الليبراليين، يبدو أن القرار يصب مباشرة لصالح خصومه الجمهوريين، الذين يتمتعون بتأييد الكثير ممن لا يستسيغون تقنين الشذوذ. هؤلاء الأمريكيون مقتنعون أن الشذوذ يخرج عن إطار الحرية الفردية، ويضرب في الجوهر الأخلاقي للمجتمع، فالسماح بالشذوذ من وجهة نظرهم ليس شكلا من أشكال التسامح، ولكنه تآكل بطيء للمجتمع وتفريط في قيمه الدينية. الغريب أنه قبل صدور هذا القرار وأشباهه لم تكن الولايات المتحدة وطنا طبيعيا للشواذ، فمنذ القرن السابع عشر، كان لدى كل الولايات الأمريكية قوانين لتحريم الشذوذ بكافة أنواعه، وقد تراوحت عقوبته وقتها بين الغرامة والإعدام، كما كان المجتمع الأمريكي يمنع الشواذ من الالتحاق بالخدمة العسكرية. وفي العام 1953 وقع الرئيس أيزنهاور على قانون يمنع توظيف الشواذ في الوظائف الفيدرالية على اعتبار أنهم يشكلون خطرا على الأمن القومي للولايات المتحدة، وعلى مدار الحرب الباردة، كان الشذوذ، بعد الشيوعية، يعد الخطر الأساسي الذي يتهدد القيم الأمريكية. وقد اعتبر الشذوذ على أنه بمثابة تهديد للنظام الاجتماعي والسياسي لأمريكا، كما اعتبر الممارسين له على أنهم خارجين عن الهدف الذي يفترض أن أمريكا قد أنشأت من أجله؛ وهو أن تكون بمثابة "مدينة على التل"، أي بقعة بعيدة عن شرور العالم. وقد ارتبط الشذوذ في أذهان الأمريكيين بأشكال التآمر السري على المجتمع (كالماسونية). وحاول المجتمع الأمريكي التبرؤ منه بنسبته دائما إلى مجتمع المهاجرين الأوروبيين الذين جلبوا معهم الموبقات إلى التراب الأمريكي!ولكن بعد أن نشطت حركات الحريات المدنية، المنادية بحرية ممارسة الرغبات الجنسية الشاذة، بوصفها جزءا من الحرية الفردية، اعتبر على نطاق واسع أن التدخل في تنظيم "السلوك الجنسي" يعد شكلا من أشكال قمع الدولة وتدخلها في المجال الخاص للأفراد! وقد اكتسب مؤيدو "الشذوذ" زخما واضحا بعد أن اصطفوا مع الحركات الراديكالية الأخرى، مثل حركات السود، وحركات اليسار الجديد، والحركات المناهضة للحرب، من أجل كسب الاعتراف، وتحصيل المزيد من الامتيازات السياسية.وتدريجيا تغير اللفظ المستخدم للإشارة إلى "الشواذ"؛ فبعد أن كان يشار إليهم على أنهم "السدوميون"، نسبة إلى المدينة التي اشتهرت بهذه الفعلة قديما، أصبح يشار إليهم باسم المثليين، أي أصحاب الميول الجنسية المتوجهة إلى نفس النوع.ولكن بشكل عام مازال الأمريكيون ينتظرون من ساستهم أن يتبنوا أخلاقيات وقيم الأسرة التقليدية، القائمة على العلاقة بين رجل وامرأة، حتى إنه لا يوجد شخص واحد غير متزوج تولى رئاسة أمريكا أو ترشح للرئاسة خلال القرن العشرين، كما أن الوفاء الأسري هو السلوك المتوقع من أي رئيس أمريكي تجاه زوجته، وعندما أعلن حاكم ولاية نيو جيرسي في العام 2004 بأنه ذو ميول جنسية شاذة، تعرض لانتقادات اضطر على إثرها أن يتقدم باستقالته.من ناحية أخرى فإن النجاحات التي تحرزها حركات الشواذ عادة ما تستفز المعسكر المحافظ، وتدفعه للرد بقوة، وقد دخل موضوع الشذوذ الجنسي إلى صلب السياسة الأمريكية منذ إدارة ريجان، وذلك مع صعود نجم التيار المحافظ داخل الحزب الجمهوري، ومن المعروف أن الأجندة "الأخلاقية" لهذا الحزب تتضمن ثلاث قضايا تقليدية وهي (مقاومة الإجهاض، عدم الاعتراف بحقوق الشواذ، والدفاع عن الحق في امتلاك السلاح). وقد وقفت إدارة ريجان بقوة أمام تمدد حركات الشواذ، وقامت بدور مؤثر في تعبئة قطاعات كبيرة من المجتمع الأمريكي ضد القوانين التي تشرع زواج الشواذ والتحاقهم بالخدمة العسكرية. وهو الدور الذي أكمله جورج بوش الأب بعد ريجان. وقد فسر المراقبون تفضيل الأمريكيين انتخاب بيل كلينتون في مواجهة بوش الأب، على أنه تصويت ضد سياسات الجمهوريين المتزمتة، ومحاولة لاستعادة الوجه الليبرالي لأمريكا. ورغم هذا فقد استطاع الجمهوريون المحافظون أن يعكسوا هزيمتهم، وذلك بأن دفعوا بملف فضائح كلينتون إلى الواجهة.وقد كان سجل الفضائح الأخلاقية لكلينتون أحد العوامل المهمة التي ساعدت الجمهوري بوش الابن على الفوز في انتخابات العام 2000، ومنذ اللحظة الأولى حاول بوش أن يظهر نفسه أمام الجماهير المحافظة على أنه صاحب مهمة رسالية، وكانت أحد أهم أدواته في ذلك هي التأكيد على موقفه الرافض من زواج الشواذ.الغريب أنه بعد أن ثبت أن بوش لا يمتلك مقومات الرئاسة، بعد أن ورط بلاده في حربين فاشلتين، وتوقع الجميع أنه لن يتمكن من الفوز بفترة رئاسية ثانية، جاء القرار الذي أصدرته المحكمة العليا لولاية ماساتشوستس (والتي تعد الأقدم على مستوى البلاد) بالسماح بزواج الشواذ، ليثير مخاوف واسعة لدى القطاعات المحافظة من الشعب الأمريكي، ويدفعها للتصويت لبوش الابن في انتخابات العام 2004 ليفوز عن غير استحقاق بفترة رئاسة ثانية. وقد كانت نسبة الأصوات المحافظة والمتدينة التي حصل عليها بوش شديدة الدلالة، فقد شكلت ما نسبته 40 % من جملة الأصوات التي حصل عليها.فهل يعيد التاريخ نفسه، ويوجه قرار المحكمة العليا بتقنين زواج الشواذ ضربة للجهود الديمقراطية للبقاء في البيت الأبيض، لصالح خصومهم من الجمهوريين؟