05 أكتوبر 2025
تسجيلعلى صرخات "يا حسين" عند ذبح سُنة "القصير" في سوريا، وصرخات "الله أكبر" عند ذبح وسحل شيعة "الجيزة" في مصر أو مسيحييها نعبر بكل ثقة بوابة الحروب الدينية في المنطقة! نغوص بعيدا في تاريخ قديم مليء بالدم والقتل على الهوية الدينية والطائفية. ونعود محملين بغرائز الثأر السخيف لمن قتلوا قبل أربعة عشر قرنا، مصممين على زج شباب ساذج لا يعرفون إحداثيات موقع أقدامهم، لكنهم موقنون بأن الجنة لن تنفتح لهم ما لم يشربوا من دم من يتصورونه "عدوهم" الديني الذي يجب أن يختفي عن وجه الأرض. اشتغلت إيران الخمينية ونظريتها في تصدير الثورة إلى دور الجوار وما بعدها كتفا إلى كتف مع التعصب السلفي والتكفيري الذي اندلع معها في قيادة المنطقة إلى مصير كارثي، وحقبة حروب، لا نعرف متى سنخرج منها إن دخلنا مرحلتها الدموية الحالية. كل الشواهد التي أمامنا وتقريبا في كل بلد من البلدان العربية والإسلامية تؤكد حقيقة تتأسس كل يوم حتى تكاد تصبح من الحقائق الفيزيائية وهي التالية: كلما أدخلنا المزيد من الدين والطائفة في السياسة كلما اتسع نطاق الدم والدمار في كل الاتجاهات، وبالتالي أغلقنا أمامنا أبوب المستقبل لبناء مجتمعات صحية وفاعلة ومبدعة، لا نريد أن نتعلم من تجارب البشرية التي دفعت عقودا طويلة من الحروب الدينية نتيجة خلط الدين بالسياسة، ونصرّ على أن نخوض نفس التجربة وندفع نفس الأكلاف وربما أكثر.السياسيون اللئيمون فينا يستغلون الدين طولا وعرضا ويجيشون خلفهم الملايين وراء شعارات وأحلام وطوباويات تخدم مصلحتهم ولا علاقة لها بالدين. والإسلامويون الذين يُقحمون الدين في السياسية والسياسة في الدين إما عن حُسن نية أو عن سوء قراءة للتاريخ والاجتماع، فإنهم عمليا يقفون في معسكر التوظيف السياسي واللئيم للدين ويصلون إلى نفس النتائج. شواهد الحالة الأولى، أي التسييس الواعي للدين لخدمة مصالح السيطرة والنفوذ، يمكن كشفها وفضحها بشكل أو بآخر، لكن الحالة الثانية، أي الاعتقاد اليقيني بفاعلية ونجاعة خلط الدين بالسياسة هي الأكثر تعقيدا، والأشد خطورة. إنها تصدر عن قناعات راسخة بأن "مصلحتنا" كمجتمعات وأفراد تكمن في ذلك الخلط، وفي الانقياد للأحزاب والجماعات التي تقوم به وتقوده، وللمنظرين الذين يروجون له، والتقعيد الفكري والأساسي الذي ينطلق منه كثيرون يستند على فكرة لا تاريخانية هي خلاصة تنظير رغائبي أكثر منه قراءة واعية ومتأنية في تجارب التاريخ الإسلامي تقول إن علاقة الدين بالسياسة في تلك التجارب تتسم بالاختلاف عن غيرها من تجارب الشعوب والحضارات. لهذا وبرغم عدم بخل تاريخ البشر في الماضي البعيد والماضي القريب من تقديم الدروس المريرة والمرعبة والرادعة، فإننا نصفح عن قراءتها واستيعابها، ونقول إن لنا "خصوصيتنا" الثقافية إزاء علاقة الدين بالسياسة، وأننا محصنون من كل ما مرت به أوروبا وكل العالم من ويلات بسبب هذا الخلط. "بشائر" هذا الخلط بادية الآن وكل يوم كالشمس سواء في مجال "الجهاد المسلح" أو في مجال "الجهاد السياسي" إلا أن العناد الديني الذي يستحوذ على صُناع الرأي والقيادات الإسلاموية يعميها بالتمام والكمال. في مجالي الجهاد المسلح والمسيس على السواء تتحكم قاعدة أساسية عند محتكري النطق باسم الدين ومحتكري تفسيره، وهي إقصاء الآخرين وشطبهم، مباشرة أو بشكل غير مباشر، سوف يقول كثيرون إن من العسف والظلم إطلاق هذا الحكم على كل الإسلاميين وأن كثيرا منهم، خاصة في مجال "الجهاد السياسي" يؤمنون بالعمل المشترك ويبتعدون عن الإقصاء. وهذا صحيح ولكن بنسبة ضئيلة وتكاد تكون استثنائية، فغالبية "العمل الإسلامي" الحزبي والمسيس قائم على الإقصاء، ليس إقصاء غير الإسلاميين وحسب، بل وإقصاء الإسلاميين الآخرين. ولنا أن ننظر في معارك الإسلاميين أنفسهم وقسوتها وقسوتهم على أنفسهم، من تكفير سلفيي تونس لحزب النهضة الإسلامي الحاكم فيها، إلى عداوات الإخوان مع السلفيين في مصر، وإلى المقتلة تلو الأخرى التي يقودها سلفيو ليبيا، وصولا إلى محاصرة مقاتلي حماس لمقاتلي الجهاد الإسلامي في غزة ومطاردتهم ثم دهسهم. وكنا رأينا تجارب لا حصر لها في صراعات "الاخوة" وحروبهم، من أجنحة الإخوان المسلمين في سوريا في حقبة الثمانينيات، إلى دك المجاهدين الأفغان مساجد كابول على رؤوس بعضهم البعض ورؤوس المصلين فيها. في كل تلك الحالات هناك عنف مرعب وقسوة ملفتة، كما نشهد الآن في "المجاهدات" المُتبادلة بين تكفيري السلفيين وحزب الله في سوريا وغيرها، مبعث هذه القسوة هو "القناعة العقدية" المترسخة بأن "العدو" على الطرف الآخر هو "عدو الله"، وأن المسألة تتعدى الخلاف السياسي والصراع على مصالح معينة. ومن هنا فإن الولوغ في الدم إلى آخر مدى يكون مدفوعا بنزعة خليط من الإيمان المتعصب، والانتقام التاريخي الدفين. ويكون دم الخصم وليس شيئا غيره هو الطريق المؤدي للخلاص والجنة. بسبب هذا فإن الحروب الدينية تكون طاحنة ودموية وليس فيها مساومات، ومثلها تكون حروب الأيديولوجيات الصلدة ذات النزعات العنصرية أو الإقصائية أو الإبادية كالنازية والفاشية، حتى لو كانت الصورة الظاهرية لهذه الأيديولوجيات علمانية حداثية. معنى ذلك أن أيديولوجيات الإبادة قد تتساوى وبغض النظر عن انتسابها للدين أو للحداثة طالما أنها ذات جوهر غير ليبرالي، أي يغيب عنها المكون التعددي الذي يقر بالاختلاف ويتأسس على التعايش مع المختلف وليس ضرورة تغيير قناعاته بالقوة، أو إقصائه وتهميشه، أو في تصفيته وإبادته إن لزم الأمر. وليس في هذا الحديث إلا تكرار (قد يكون مملاً) لما أفضت إليه التجربة الإنسانية في مختلف تنويعاتها. لكن لا يزال الدرس الواضح والجلي لتلك التجربة بعيدا عن استيعابنا. الجوهر الليبرالي القائم على مبادئ المساواة المطلقة بين الأفراد بغض النظر عن الجنس، والإثنية، والدين والطائفة واللون والقائم على تقديس حريتهم وإعلائها فوق أي مبدأ آخر، هو الذي يضمن التعايش ويغلق بوابات الأفضلية والتراتبية القائمة على معطيات وغرائز بدائية. وهو الجوهر الذي يترجم الاختلاف والصراع بين أفراده على شكل سلمي وعبر آلية الديمقراطية. وهذه الآلية تفرز من يقود السلطة، ولفترة مؤقتة، ووفق المبادئ العليا التي تساوي بين الأفراد، والتي تكون فوق الدستور وقبله، وتضمن التداول على تلك السلطة سلمياً ومن دون دماء. لهذا فإن الديمقراطية لا تكون ديمقراطية حقيقية من دون أن تكون ليبرالية، أي ديمقراطية أخرى لا تتبنى الجوهر الليبرالي لا تكون ديمقراطية مكتملة، بل قد تكون إعادة إنتاج لأنماط محلية من الاستبداد سواء الديني أو الحداثي. فهناك في المنطقة "ديمقراطية إيرانية" و"ديمقراطية إسرائيلية" على سبيل المثال. وكلتاهما فاقدة للجوهر الليبرالي، فالأولى قائمة على خليط من الإقصاء الديني والطائفي، والثانية قائمة على خليط من الإقصاء العرقي والديني، الأولى صورتها الظاهرية دينية فجة، والثانية صورتها الظاهرية حداثية فجة. في الديمقراطية الليبرالية تقوم كل الخلافات السياسية وغيرها على أرضية تحقيق أكبر مصلحة ممكنة لأكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع. وذلك عبر برامج سياسية وما يمكن تحقيقه على أرض الواقع. في أي نظام أيديولوجي أو ديني يتم تحويل ونقل كل الخلافات إلى أرضية إيديولوجية أو دينية: كفر وإيمان وبعيدا عن أي أرضية مصلحية. في الديمقراطية الليبرالية تتم تسوية الخلافات والمنافسات على أرضية المساومات وإنصاف الحلول. أما في الديمقراطية الدينية فإن الخلافات والمنافسات التي يتم تدويرها وإعادة إنتاجها على شكل حقائق دينية فإن أرضية المساومة تندثر، وليس هناك اعتراف بأنصاف الحلول، ويصير بالتالي لا بد من "الحسم"، لأنه ليس هناك إلا "حق واحد".