17 سبتمبر 2025
تسجيلانتهت أخيراً أبرز انتخابات عاشتها الدولة التركية، سواء الحكومة بأجهزتها المختلفة أو الشعب بأحزابه وطوائفه وتنوع ميوله ومزاجه، منذ التوقيع المشؤوم على المرسوم الأشأم منه، بإلغاء الخلافة العثمانية بدايات القرن الفائت. نتائج الانتخابات الأخيرة لا أشك لحظة أنها ستكون بداية لرسم ملامح الجمهورية التركية الجديدة - إن صح وجاز لنا التعبير- في المئوية التركية القادمة بإذن الله، والتي نسأل الله أن تكون فاتحة خير عليها وعلى الأمة جمعاء، من بعد أن شاهد الجميع كيفية تكالب الغرب بأجهزته المختلفة مع بعض أنظمة الشرق لقطع الطريق على حزب العدالة من التفوق في البرلمان، ومن ثم رئيسه في انتخابات الرئاسة، وما كان كل ذلك التكالب إلا بسبب استشراف دقيق منهم لمستقبل هذه الدولة بقيادة هذا الحزب وذلك الزعيم التاريخي، واحتمالات نهوض مؤثر مستمر يمتد أثره نحو بقية العالم المسلم. ما أعجبني كثيراً في المسلسلات التركية التاريخية مثل قيامة أرطغرل ومسلسل عثمان، وضوح مسألة "التآمر الغربي" على الدولة العثمانية وهي في المهد، ووضوح مسألة الخيانات الداخلية، وكيفية استغلال القوى المعادية آنذاك لبعض ضعاف النفوس من الأتراك، مقابل حفنة دنانير أو قطع ذهبية، أو مناصب إدارية لكن تحت إشراف تلك القوى المتآمرة، وكيف عانى الأتراك المؤسسون من تلك الثغرات الداخلية أكثر من ضغوط الخارج، وكيف كانت العلاجات أو الحلول لتلك الثغرات، وبقية أحداث تتشابه مع الواقع التركي الحالي. اليوم تكاد تتكرر السيناريوهات ذاتها تماماً، فالقوى الخارجية، غربية وشرقية وغيرها، تتعاون أو تتآمر – إن أردنا دقة أكثر في التعبير – لعرقلة حركة هذه الدولة، أو على أقل تقدير، إبطاء مسيرتها لحين من الدهر طويل، عبر سيناريوهات عديدة منها: استغلال ضعاف النفوس من الداخل لعرقلة مسيرة الحزب الذي يقود ويحكم البلاد ويعمل على نهضتها منذ عقدين من العمل الدؤوب الجاد، حتى وإن كانت العرقلة على حساب مصلحة الدولة وتعطل نهضتها وتنميتها، وهذا ما اتضح لنا جلياً من خلال وسائل الإعلام، دونما حاجة للتذكير بها. الغرب يستشرف مستقبلنا لا شك عندي أن الغرب مع بعض الشرق، أو إن جاز لنا التعبير، تكرار مصطلح (المتآمرون) لوصفهم، يدركون أكثر من ملايين الأتراك أنفسهم أن تركيا بالمنهج الذي يسير عليه حزب العدالة وبقيادة الطيب أردوغان، إنما هي خطوات أولية لوضع بذرة لدولة إسلامية سنية ستكون ذات شأن في قادم الأيام، مهما بدا للمراقب العادي ضبابية ذلك وبما يجعله يستبعد هذه الفرضية، وخاصة أن الأتاتوركية والعلمانية والحياة الغربية لا زالت سائدة وملحوظة جداً في تركيا، ولها نفوذها وتأثيرها حتى يوم الناس هذا. تلكم الضبابية ربما عند ملايين المسلمين حول العالم أيضاً، بناء على الواقع الحالي، حتى وإن توسعت وانتشرت المظاهر الإسلامية في تركيا خلال العقدين الماضيين، إلا أن التوحش الغربي والعلماني هناك لا زال واضحاً شرساً، وهو ما يدعو ربما كثيرين إلى استبعاد فرضية عودة تركيا إلى ما كانت عليه قبل قرن من الزمان أو أكثر. لكن الطرف المستشرف لمستقبل تركيا، لا ينظر بتلك النظرة السطحية التي عليها كثير من المسلمين، بما فيهم الأتراك أنفسهم. إن هذا الغرب المستشرف لمستقبل كل القوى المحتمل ظهورها في قادم الأيام، ومنافستها على قيادة البشرية، يعمل جهده وفكره منذ توليه زمام تلك القيادة، على وأد أي تحركات من شأنها الدفع بقوة جديدة فتية تنافسه، فما بالك لو كانت تلك التحركات من العالم المسلم، وبالتحديد العالم السني؟ الإسلام السنّي إنه الأمر ذاته الذي لم يقدر وزير داخلية فرنسا من كتمه حتى أعلنه بصراحة ووضوح في زيارة لواشنطن مؤخراً، بأن " الإرهاب الإسلامي السّنّي هو أبرز تهديد لبلاده وأوروبا وأنه جاء إلى الولايات المتحدة ليذكّر الأمريكان أنه بالنسبة إلى الأوروبيين ولفرنسا، الخطر الأول هو الإرهاب الإسلامي السّنّي، وإن التعاون لمكافحة الإرهاب بين أجهزة الاستخبارات هو ضروري للغاية". هكذا بكل وضوح، بل زاد في تأجيج وتحريض الأمريكان أكثر مما هم عليه، رغم انشغالهم بأزماتهم الداخلية التي تتعاظم، بقوله:" بينما قد تكون للأمريكيين رؤية وطنية أكثر للأزمات مثل التفوق العرقي الأبيض وعمليات إطلاق النار الجماعية المتكررة والتآمر، لا يجب أن ينسوا ما يبدو لنا في أوروبا بمثابة التهديد الأول: الإرهاب السنّي ! لاحظ معي أن هذا الوزير يحدد الفئة التي يمكنها قلب معادلات الغرب تماماً، كما كان الحال على مدار التاريخ منذ قيام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، على مؤسسها وساكنها أفضل الصلاة والسلام. إنها الفئة السنية المسلمة، على رغم تنوع المسلمين في أفكارهم ومآربهم ومشاربهم اليوم، ما بين شيعة وعلمانية وقومية وطوائف أخرى مع أحزاب وجماعات ما أنزل الله بها من سلطان. لم يأت ذاك الوزير على أي من تلك الفرق والجماعات، بل قال تحديداً " الإسلام السني ". وتركيا اليوم بقيادة الطيب أردوغان وحزبه، مسلمون من أهل السنّة، أصحاب مشروع نهضوي ريادي، يمتلكون أرضاً وقاعدة جماهيرية وموارد وإمكانيات تجعلهم قادرين على بعث دولة ذات قرار، لها شأنها ومكانتها وقوتها في هذا العالم المضطرب، الذي لا زالت الحضارة الغربية تهيمن عليه، بأخلاقياتها المتأرجحة وقيمها المشكوك في أمرها ونظرتها المادية البحتة للحياة.. القيادة الواعية المنتظرة يدرك الغرب ومن معه في الفلك يسير، أن المسلمين في العالم لا تنقصهم ما يعينهم على استعادة وعيهم ودورهم الحضاري، إلا قيادة واحدة واعية مدركة لتحديات الحاضر، وقادرة على استشراف حكيم للمستقبل، من أجل لملمة الشتات المسلم تحت راية مخلصة ذات رسالة، ووفق رؤية بعيدة تستند على منهج واضح من الدين، وتمتلك أفقاً واسعاً يُمَكّنها من مسايرة ظروف الحاضر وتكييفها وفق ما تقتضيه مصلحتها. يعلم الغرب تماماً أن ما يقوم به الطيب أردوغان ورفاقه في الحزب منذ عقدين أو ربما أكثر، هم الأنسب لتولي زمام تلك القيادة، منذ أن وضع الأساسات لهذا العمل نجم الدين أربكان – رحمه الله – وهم بعملهم هذا يكاد يصل بهم الأمر إلى تجسيد النموذج المطلوب لنهضة البلاد أولاً، ومن ثم الأمة جمعاء، حيث إن النواة الأساسية لنهضة الأمة تكاد تكتمل في الموقع الأكثر تأهيلاً لأن تكون مقر تلك النواة وهي تركيا.. وهذا ما تعبّر عنه نتائج الأعمال والإنجازات على أرض الواقع. ربما هذا ما دفع الوزير الفرنسي للاستعجال وتنبيه الغرب بالإعلان عن هذا الحاصل في تركيا، وإن قالها بشكل غير مباشر وأطلق عليه الإسلام السني، ويقصد دون أدنى ريب، تركيا الجديدة. هذا أمر بالغ الأهمية ولا يجب الاستهانة به، وأقصد تصريحات الوزير الفرنسي أولاً، ومن ثم التحولات الحاصلة في تركيا، المنتظر منها تحولات أكثر وأشمل وأعمق وأجود خلال الفترة القادمة، التي ستكون فترة تحد كبير لها، تتطلب دعماً إسلامياً فاعلاً، فالعالم في حراك واضح، وترتيبات سياسية جديدة لا نريد أن تكتمل وليس لنا فيها شأن ولا تأثير.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.