18 سبتمبر 2025
تسجيلقيل من قبل إن "البيانات هي النفط الجديد"، وأضافوا أنها أساس المعلومة، والمعلومة هي أساس المعرفة، والمعرفة والتجربة هما أساس الحكمة، ولا غنى عن المعرفة والحكمة في إدارة الأمور وقيادة الدول والمجتمعات. وللبيانات قيمة آخذة بالتوسع بكل الطرق والوسائل، وإذا كانت السياسة تتجه حقا إلى الثقافة فإن ساحة المعركة التالية للبيانات الضخمة ستحدث على ما يبدو في الساحة الجيوسياسية. في العصر الحديث ستكسر البيانات كلا من مساحة الأرض والآلات كأهم ركائز للاقتصاد، وسيتم شن الحروب، ليس من أجل النفط أو الأرض ولكن من أجل السيطرة على تدفق البيانات، فالأخيرة ستكون هي المحرك الرئيسي للاقتصاد وحتى شن الحروب. ليس عمالقة التكنولوجيا فقط من يتنافسون على البيانات من خلال جذب انتباهنا إلى الخدمات والمعلومات المجانية، مثل أمازون وأوبر وكريم وعلي بابا وفيسبوك وتويتر وغيرها، فهناك في بلدة "بلوفدايل" بين جبلي "واساتش" و"أوكيرا" بولاية يوتا الأميركية يقع المركز الأضخم للتنصت على الوسائط الإلكترونية والرقمية التابع لوكالة الأمن القومي الأميركي - وهي رأس مجموعة المؤسسات الاستخباراتية والأمنية في أمريكا - والمعروف باسم "مركز بيانات يوتا" (UTAH Data Center)، وهو منشأة تخزين بيانات تابعة للولايات المتحدة مصممة لتخزين بيانات بحجم إكسابايت أو أكبر، والهدف الرئيسي من المركز هو دعم مبادرة الأمن السيبراني الوطني الشامل "سي إن سي آي" (CNCI). وتدير وكالة الأمن القومي "إن إس إيه" (NSA) عمليات المركز الذي تتمثل مهمته في اعتراض وملاحقة وتحليل جميع أنواع الاتصالات، بميزانية تصل إلى ملياري دولار سنويا، إضافة إلى مهمة تخزين مستمر لكل ما يتم تداوله في الاتصالات الرقمية ومواقع التواصل وتطبيقات الشبكة العنكبوتية على امتداد الكرة الأرضية كلها، وتعمل فيه الحواسيب الأشد قوة وذكاء وتطورا، وأضخم الحواسيب المنتمية إلى فئة "سوبر كمبيوتر" القادرة على كسر الشفرة في كل أنواع الاتصالات، سواء سلكية أو تليفونية أو كابلات إنترنت، وعلى تخزين وفحص وترتيب وتصنيف مليارات المعلومات في الثانية الواحدة، ومتصلة بـ"شبكة المعلومات الشاملة"، ويرصد هذا المركز أيضا حركة شبكة الإنترنت وتطبيقاتها المتعددة وكل صفحات التواصل الاجتماعي، وبهذا المعنى فإن كل ما يدور في الفضاء السيبراني مرصود في يوتا ومستخدم في الفحص والتصنيف. إذن، هي حرب من أجل الاستئثار بالبيانات المتاحة على الشبكة العنكبوتية، ومعرفة اهتمامات الجماهير واتجاهاتها، وأي المطاعم التي يذهبون إليها، والشركات التي يبحثون عنها، والأسهم، وطلبات التوظيف، والوجهات السياحية، وتذاكر الطيران والفنادق، ثم تحليل هذه البيانات، وفهم توجهات الأفراد والأسواق من أجل التحكم في الأسواق والتوجهات، بل طرائق التفكير، وهي أكبر صناعة قائمة الآن، وهي التي جعلت من فيسبوك أكبر بلد على كوكب الأرض. هذا هو ما يعرف بـ"بيغ داتا" (Big data)، أي البيانات الكبيرة، وهي تشير إلى ذلك الكم الهائل من البيانات المتاحة، سواء كانت "مصادر متاحة للجمهور -البيانات المتاحة على شبكات التواصل الاجتماعي- البيانات المتدفقة"، أو سواء كانت لدى شركة معينة تحتكر بيانات تخصها وتخص العاملين والعملاء لديها، والأمر الحاسم هنا ليس في امتلاك البيانات، ولكن في تحويل تلك البيانات إلى معلومات، والمعلومات إلى معرفة. يعيش العالم اليوم حقبة تاريخية جديدة تتصف بالفن الصناعي المعتمد على العلم، ومن يملك التقنية يملك المعلومة، ومن يملك المعلومة يملك مفاتيح القوى والنفوذ والسيطرة. عالم ما بعد الثورة الرقمية الجامحة اليوم، وفي ظل تدفق المعلومات والبيانات الهائل في الفضاء الرقمي وهيمنة العالم الافتراضي على تفاصيل حياتنا ظهر العديد من التحديات الجديدة المرتبطة بسيطرة هذا العالم على حياة الإنسان في ظل اكتسابه قوة عالمية من خلال قدرة الثورة المعلوماتية والاتصالية الطاغية على جذب كافة شرائح المجتمعات وتقديمها بدائل تواصلية مجانية وفعالة. إن نظرة متفحصة اليوم الى التأثير المتعاظم لهذا العالم على حياة وواقع البشر تشير بوضوح إلى عمق السيطرة المتحققة لهذه الأجهزة الذكية وما تحمله من تطبيقات مبهرة ومتنوعة على حياة الإنسان بشكل يومي. إذا نظرنا إلى هذا العالم بلغة الأرقام نجد أكثر من 4.9 مليارات مستخدم فعال للشبكة العنكبوتية وحوالي 4.3 مليارات يدخلون إلى 198 مليون موقع فعال للإنترنت عن طريق هواتفهم الذكية، وما يزيد على 7 ملايين مقال يتم نشرها يوميا، وأكثر من 500 ساعة من الفيديوهات يجري تحميلها على اليوتيوب كل دقيقة حتى بات المستخدم يقضي ما يزيد على 6 ساعات يوميا على الإنترنت. لقد أحدث هذا العالم ثورة جديدة ستغير شكل الحياة البشرية تقودها التقنيات فائقة التقدم، فهي ثورة رقمية شاملة على مختلف المستويات، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وذلك لأن التطبيقات الذكية تتعدد وتتزايد بصورة يصعب حصرها، ثورة هائلة في كل مفصل من مفاصل حياتنا المهنية والعملية والعلمية والصحية والترفيهية والخدمية، وها نحن نشعر بتأثيراتها في ثقافتنا وسلوكنا ونمط غذائنا وعلاقاتنا وخصوصيتنا التي باتت مكشوفة، لا بل مسلوبة، حيث يستطيع أحدنا وهو في مكتبه أو غرفة نومه أو سيارته أو في مكان عمله أو في البنك والمؤسسة والسوق إنهاء معاملاته، وأن يضارب في الأسهم والسندات وشراء ما يلزمه والتواصل مع أي شخص في هذا العالم بكبسة زر. إن الثورة الرقمية الجامحة التي نعيشها اليوم هي أحد إرهاصات الثورة الصناعية الرابعة، بما تحمله إلينا من تغيرات معرفية وتكنولوجية مذهلة تقوم على الذكاء الاصطناعي بمختلف تطبيقاته وأطيافه في كل جوانب الحياة الإنسانية، حتى أن التحولات الرئيسية التي ستحدث في "مجتمع ما بعد المعلومات" ستؤدي بصورة كبيرة إلى إعادة صياغة كثير من المفاهيم القائمة على أساس "التخمة" المعلوماتية والاتصالاتية الضخمة وإنترنت الأشياء والقدرة الهائلة على معالجة البيانات وربط العالم بعضه ببعض، مما يدلل على أن البشرية في مرحلة انتقالية، وأن القادم سيكون أكثر غرابة وربما جنونا.