18 سبتمبر 2025
تسجيلمن يتابع تطورات الأحداث في الخليج منذ أزمة سحب السفراء من قطر عام 2014 سيلاحظ على الفور أن المسألة باتت أشبه بمصارعة كسر العظام، ليس لشيء سوى الرغبة في كسر شخصية قطر السياسية، التي تشكلت وتكونت خلال أكثر من عقدين كاملين من الزمن تقريبًا. تلك الشخصية المحبة للبناء والتعمير، والمساهِمة في الخير للآخرين، ورأب الصدوع وحل المشكلات هنا وهناك، وبشهادة كثيرين حول العالم. لا شك أن الشخصية القطرية السياسية أزعجت القريب أكثر من البعيد، رغم أن المجال كان مفتوحًا وما زال، لأي جار أن يبني شخصيته المميزة، مع ما ينتج عن ذلك الكثير من الفوائد لصالح منظومة التعاون، وشعوب المنطقة بصورة أو أخرى. فأن تكون في مجلس تعاوني لا يعني أن تكون نسخة كربونية من الآخرين بالمجلس. نعم نتفق على المبادئ ولكن لا يمنع أن تكون لي شخصيتي ورأيي ورؤيتي للأمور، فهكذا حال المجالس والكيانات السياسية في كل العالم. هذه حقيقة رأيت ضرورة البدء بها. الحملة الإعلامية اللاأخلاقية على قطر، والتي وإن بدا زخمها يخفت ويهدأ ويتوارى منذ أن بدأت قبل أسبوع، دليل جديد مؤكد على أن الرغبة ما زالت موجودة بالتعاون الخليجي، لتكون كل الدول نسخ كربونية عن شخصية واحدة هي التي ترى وتفهم وتفكر وتقرر، ومن يخرج عن تلك النسخة سيكون معرّضًا لكل أنواع التهم.. تبدأ بتهمة إزعاج السلطات وتنتهي بالتخوين! فما زال بعض المسؤولين بالتعاون الخليجي، وإن كان بشكل غير مباشر، ومن يدور في فلكهم من إعلاميين ومثقفين ومنتفعين ومستشارين عرب وغير عرب، مستمرين في تكرار الأسطوانة المشروخة نفسها عن قطر، والتي قالت قطر عنها بكل وضوح في بيان قديم متجدد لها "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين". الإخوان، حماس، التدخل في الشؤون الداخلية، الجزيرة، التحريض!! هي مكونات الأسطوانة التي أصابها الشرخ من كثرة التكرار والاستعمال. أما الإخوان، فإن كان إيواء بعض عناصرهم التي هاجرت بعد الانقلاب، خشية الاعتقال والتعذيب أو القتل، هو في عُرف أصحاب الحملة دعم للإرهاب! فكذلك إيواء شفيق ودحلان وزين العابدين وأمثالهم، يُعد في عرف الشعوب المقهورة، وليس قطر فقط، دعما صريحا لإرهابيين ومجرمين هاربين من العدالة. أما حماس والانزعاج من وقوف قطر معها، فهو أمر غاية في الغرابة. ألم يقف كل الخليج منذ عقود طويلة مع منظمة التحرير الفلسطينية، حين كانت حركة مقاومة مسلحة وقدمت لها كل الدعم، بل وما زالت تقدم الدعم رغم استسلامها المهين؟ فلماذا تقدم الدعم لفصيل استسلم، وتستنكر على قطر أنها لا تزال تقف مع فصيل آخر يرفض الاستسلام ويعاني القهر والحرمان من المحتل؟ لماذا يتم استنكار هذا العمل من قطر، في حين أن قطر لم تستنكر ولم تعارض دعم بعض الخليج لمحمود عباس ومن معه في الفلك يسيرون؟ هذه رؤى سياسية قابلة للنقاش وقد تتغير مع الظروف، ولكن لا يصل الأمر أن يجبر أحدٌ الآخر على رأيه. أما تدخل قطر في الشؤون الداخلية لبعض الدول الأعضاء بالتعاون الخليجي، فإنه قصة لا أريد الإسهاب فيها، لأنها زعم ووهم كبيرين، بالإضافة إلى أنه غير منطقي لاعتبارات كثيرة. فكيف يقبل المنطق والعقل أن تزعزع قطر أمن واستقرار جوارها، وهي أول من ستتأثر بعمق شديد لأي عدم استقرار وفوضى بجوارها؟ فإن للجغرافيا والديمغرافيا اعتبارهما ها هنا. ثم، أليس الضغط على الآخر لاتخاذ قرار ما مكرهًا ومجبرًا، هو قمة التدخل في الشؤون الداخلية وانتهاك للسيادة؟ لماذا يُراد لقطر إجبارها على قرارات معينة تتعارض مع مصالحها الإستراتيجية؟ أليس هذا تدخلا صريحا وسافرا في شؤونها الداخلية؟ لماذا لم تقل قطر أن ذلك تدخلًا في شؤونها وتعارضًا لمصالحها؟ النقطة الأخيرة حول مزاعم التحريض، والمقصد ها هنا قناة الجزيرة، على الرغم أنها منذ فترة طويلة تتناول أخبار الخليج بشكل خجول ومحتشم جدًا، ولكن تقوم بعملها بدرجة كبيرة من المهنية والحيادية قدر المستطاع، ولا يمكن مقارنتها بما عليه العربية وسكاي نيوز أبو ظبي مثلًا أو الشرق الأوسط وعكاظ والرياض والخليج والاتحاد ومنابر إعلامية أخرى سعودية وإماراتية ما بين مرئية ومكتوبة، والتي تقوم حاليًا بواجب التحريض والتشويه بشكل غير معهود ومسبوق في الخليج، حيث ضاعت خلالها كل مبادئ وقيم وأخلاقيات المهنة. لكن مع كل ذلك التحريض والتشويه في الحملة، فإن قطر لا تزال تغض الطرف عنها، إلا من بعض جهود لأفراد في وسائل التواصل والصحف الخاصة، وإن كانت بشكل فيه الكثير من الأدب والاحترام للقارئ والمشاهد، على عكس ما هو حاصل في المعسكر الثاني، الذي يتخبط يمنة ويسرة منذ أن بدأ. لا تريد قطر الاستجابة لاستدراجات الطرف الآخر والانزلاق في مهاترات وأكاذيب وفبركات، باعتبار أن هناك انفتاحا إعلاميا واسعا حاصلا وواقعا في العالم لا يمكن تجاهله، وأن سياسة تكميم الأفواه ومراقبة كل من هب ودب وحجب المواقع، إنما هي بمثابة حرث في بحر لجّي، لا يُجدي نفعًا منه مهما طال الحرث وطال الزمن، فكان من الحكمة أن تواصل قطر تجاهلها لكل هذا الهجوم الإعلامي المستمر من وسائل إعلامية سعودية وإماراتية، أو المحسوبة عليهم أو المنتفعة من دعمهم، تاركة الأمر للمتابع أو المشاهد والقارئ، حيث تراهن قطر على وعي الجمهور وقدرته على تمييز الغث من السمين.. والزمن كفيل بالأمر. لقد بدا واضحًا لكل المتابعين والمهتمين للشأن الخليجي ومنذ البداية، أن قطر لم تأخذها الحماسة والعزة بالإثم وتواجه الحملة الإعلامية اللاأخلاقية بمثلها أو أشد، وإن كان في مقدورها أن ترد الصاع صاعين إن أرادت، ولكن ما زالت الحكمة قطرية. إذ نعتقد في قطر أن مثل هذه الخلافات في الرؤى بين الدول إن حدثت، فلا يجب أن تترك لسفهاء الإعلام وبعض المرتزقة، المحليين منهم أو غيرهم من الخارج، وإنما تُرفع إلى أهل الحكمة والرأي، من سياسيين وعلماء ومفكرين، ولا تترك لسفهاء ومرتزقة الإعلام. لقد أراد "البعض" سواء كان بالداخل الخليجي أم خارجه، إحداث نوع من الفرقة بين الأشقاء في البيت الخليجي الواحد، الذي عُرف عنه منذ أن ظهر للوجود على شكل مجلس تعاون قبل ثلاثة عقود، أن مشاكله وخلافاته لا تظهر للعلن، بل يتم حسمها أو مواصلة التشاور بشأنها في هدوء وبعيدًا عن ضجيج وأضواء الإعلام. لهذا كله، أقول بأن الحكمة مطلوبة في أوقات الأزمات والأجواء المشحونة.. وإن التعامل الهادئ مع الانفعالات غير السوية والمحسوبة، هو نهج تسير عليه دولة قطر منذ زمن، باعتبار إيجابياته الكثيرة، بل إنه النهج السليم لأن يكون أنموذجًا في كيفية تعامل الدول مع بعضها، بعيدًا عن لغة التهديد أو استخدام قوى الساعد والسلاح والإعلام وغيره، التي وبكل تأكيد ما تزيد غير تخسير.