30 أكتوبر 2025
تسجيلفاجأ إعصار تنظيم«الدولة الإسلامية في العراق والشام»-«داعش» الذي ضرب العراق في العاشر من يونيو 2014، كل العالم، حين سقطت مدينة الموصل ثاني كبريات المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، ومركز محافظة نينوى (شمال العراق) في قبضة تنظيم «داعش». فعناصر تنظيم «الدولة الإسلامية » انطلقوا من قمقمهم واستطاعوا برمشة عين بسط سيطرتهم على أغلب مدن المحافظة ومساحات واسعة من محافظتي كركوك وصلاح الدين، فيما تبخر عشرات الآلاف من عناصر الجيش العراقي والقوات الأمنية في قصة مازال الغموض يكتنف فصولها وأسرارها.لقد استفاق الشرق الأوسط من جديد بدوله الحديثة على ظاهرة«داعش» الموصوفة بـ«العصابات المسلحة» الإرهابية والتكفيرية، وهي تعلن قيام دولة الخلافة في المناطق التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وهو ما يعني تدمير اتفاقيات سايكس بيكو لسنة 1916 التي قامت على أنقاضها الدول الحديثة التي استولدها الاستعمار الغربي. فاستفاقت إيران وتركيا، ومن بعدهما الإدارة الأمريكية والقيادة الروسية، على خطر جديد يهدد خريطة المنطقة بإعادة تقسيمها على أسس دينية ومذهبية وعرقية، بعد أن وصل انحدار ما كان يعرف في الأدب السياسي الحديث النظام الإقليمي العربي إلى مستوى الحضيض.الخريطة الحالية للشرق الأوسط تتمزق، لأن الحدود التي تُحَدِّدُ أراضي كل من العراق، وسوريا، ولبنان، وتركيا، واليمن، قابلة للاختراق والتغيير من الآن فصاعداً، وهي لا تعكس أبداً الواقع القائم على الأرض. ففي ظل «دولة الخلافة الإسلامية»-«داعش» التي لا تعترف بالحدود بين الدول العربية الموروثة من التقسيم الاستعماري الفرنسي والبريطاني، رأينا كيف أن الدول الحديثة الشرق أوسطية، لاسيَّما في العراق، وسوريا، واليمن، تقوضت أسسها رأساً على عقب، وبنيتها غير التوافقية، تحت تأثير ظاهرة الحرب الإرهابية التي تخوضها الحركات الجهادية ضد النظم الحاكمة.وهكذا، فإن الحدود العراقية – السورية لم تعد موجودة منذ سنة 2012 على الأقل، بعد أن أعلن التنظيم الجهادي «داعش» في نهاية يونيو 2014إقامة «الخلافة الإسلامية» على المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، والتي تشمل مناطق في شرق سوريا وشمالها، وغرب العراق وشماله. والأمر عينه ينطبق على الحدود السورية- اللبنانية، حيث كانت الحركات الجهادية التكفيرية تحظى بحرية الحركة، إضافة إلى تحول لبنان إلى قاعدة لوجستية لمدّها بالأسلحة والرجال، حتى قيام الجيش السوري باستعادة جبال القلمون في شهر مايو 2014.ومن جهة أخرى دخل حزب الله بقوة في الحرب الأهلية السورية إلى جانب النظام السوري في مواجهة القوى المسلحة المعارضة منذ سنة 2013، وكانت أولى مشاركته في هذه الحرب هي معركة مدينة القصير في محافظة حمص. هنا أيضا نلمس بوضوح أن خرائط الحدود لا تعرقل تنقل المقاتلين، ولكن في الواقع، الحدود السورية – اللبنانية سقطت منذ تدخل قوات الردع العربية (وهي في غالبيتها المطلقة قوات من الجيش السوري) في لبنان سنة 1976، عقب التداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 أبريل 1975.بصورة عامة، الحدود بين الدول الشرق أوسطية الموروثة من اتقافيات سايكس بيكو أُزِيلَتْ الآن كنتيجة منطقية لتفكك دول المنطقة، ولظهور تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات مخصوصة. ومن الواضح أن عدداً من هذه الطوائف «الأمم» بالمعنى العثماني للعبارة، المتكّسية فيما مضى في الإمبراطوريات المسلمة، صارت غداة الحرب العالمية الكبرى الأولى، تتطلع إلى أن تصبح أمماً بالمعنى العربي للعبارة، مسلّماً بها بأن تتوكد كل منها في دولة تكون خاصة بها. من هذا الواقع سوف تكون أول الاختيارات الإستراتيجية المتعلقة بالأقليات وأكثرها راديكالية، هي الانفصالية بمواجهة الدول المتعددة الطوائف(سوريا، العراق، لبنان، اليمن) الناشئة حديثاً على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.. وقد تجسد هذا الاختيار الانفصالي وحقيقة نشاطه الأشدّ وضوحاً في الوقت الراهن، في شمال العراق، حيث إن حكومة كردستان العراق أصبحت تضخ النفط من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، منذ مايو 2014، خصوصاً بعد أن ضمت قوات البشمركة مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان.وهكذا وجدت الدول العربية الشرق أوسطية نفسها ممزقة إذن من جديد منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أمام مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم الكيانات الطائفية الانفصالية، ومن جهة أخرى باسم مشروع «الدولة الإسلامية في العراق والشام » الذي لا يؤمن بالحدود، ولا بالدولة، وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي» واللاشرعية في الدولة العربية، يمزقانها بين خطر التجزئة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي -إثني، وخطر تحطيم الحدود التي رسمتها اتقاقيات سايكس بيكو، في ظل إعلان «داعش» إنشاء كيان أوسع، هو كيان «دولة الخلافة الإسلامية». أسهمت العوامل التالية مجتمعة: الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي أسقط نظام صدام حسين، وحطّم أيضًا مؤسسات الدولة من جيش وأجهزة مخابرات، ناهيك عن سمعة الفشل التي تلتصق الآن بالسياسة الخارجية الأمريكية، متأثرة بالسقوط المدوّي للإستراتيجية الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان، ودخول النظام الإقليمي العربي بكل مكوّناته في طريق الأزمة المستحكمة ذات الاتجاه الواحد، ونقصد بمكونات النظام العربي، سياسات الدول الأعضاء وأوضاعها الداخلية، إمكاناته وقدراته الكلية والقطرية وتحالفات الأعضاء وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وكذلك نقصد حالة «عقيدته» السياسية والفكرية المحركة لشبابه وعقوله، في إعطاء دفعة قوية للحركات الجهادية التكفيرية،لاسيَّما «داعش» لكي تطرح مشروع تأسيس« دولة الخلافة الإسلامية» على أنقاض النظام الإقليمي العربي الذي انهارت مكوناته جميعها. فالدول العربية التي تأسست على مشروعية التقسيم الاستعماري عبر اتفاقيات سايكس بيكو لسنة 1916، تواجه الآن خطر الحركات الجهادية التكفيرية، التي أعلنت ميلاد «دولة الخلافة الإسلامية» في صيف 2014، التي لا تعترف بالدولة القطرية ذات السيادة، وتقدم نفسها على أنها عابرة للحدود أو غير العابئة بالحدود، وتُجْهِرُ بأنها ضد الدولة في كل خياراتها وأشكالها، ومع الخلافة، أي ضد الأنساق الدولية والإقليمية المتعارف عليها، ومنها النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي.ومن المعروف أن تنظيم «داعش» الذي تعهد تنفيذ مشروع «دولة الخلافة الإسلامية»، تعرفه الشعوب العربية جيداً، التي باتت تعي منذ أن تحول ما يسمى بـ«ربيع الثورات العربية» إلى شتاء قاسٍ، أن المعارك الأهم التي تخوضها الجماعات الإرهابية التكفيرية:«القاعدة»،«داعش»، «جبهة النصرة»، «أنصار الشريعة»،لا تتضمن معركة مع «إسرائيل» أو قوى الهيمنة الغربية(أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية)، أو مع الصين وروسيا، المعركة الأهم، وقد بدأت، هي مع النظام الإقليمي العربي، من أجل تفكيك الدول العربية، وتحويلها إلى دويلات طائفية وقبلية وإثنية.أمام الخطر الزاحف ل«دولة الخلافة الإسلامية»، تطابقت المواقف الإقليمية مع المواقف الدولية في رعبها حيال ما جرى في العراق من صعود لتنظيم «داعش» وتنامي واسع لأنصاره وقيامه بإزالة الحدود العراقية مع سوريا في خطوة أربكت الخريطة الجغرافية التي أسستها اتفاقيات سايكس ـ بيكو، وهو ما وضع الراعي الأمريكي في موقف حرج كون ما جرى في «العراق الجديد» بعد سقوط نظام صدام حسين في أبريل 2003، يقوض الجهود الأمريكية التي بذلت على مدى عقد من الزمان لبناء الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى. فتحولت الساحة العراقية فعليًا إلى نقطة جذب عالمي لمواجهة ممارسات التنظيم المتطرف الذي طرد المسيحيين من الموصل كما قام بتهجير وسبي الايزيديين من مدينة سنجار، وهي أفعال أثارت غضبًا على مختلف المستويات ومن قبل جميع دول العالم.