13 سبتمبر 2025
تسجيلينشغل الكثير من الناس هذه الأيام بتوجيه السؤال الخطأ من نوعية هل المؤسسة الفلانية وطنية أم لا، وهل تعمل لصالح البلد أم تعتني بمصالحها الخاصة؟ وذلك بمناسبة حالة الصدام الدائرة حاليا بين عدد من مؤسسات الدولة واختلاط الأمر على الناس في إطار سعيهم للبحث عن معيار لموالاة هذه المؤسسة أو تلك، والانتصار لهذه المؤسسة على الأخرى. وتبدو هذه التساؤلات مشروعة ولكن في غير محلها، على الأقل من المنظور السياسي، فواقع الأمر أن علم السياسة لا يعني بالأجوبة العاطفية لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه يعني فقط بظاهرة السلطة؛ من يحوزها ومن يتحكم في الآخرين من خلالها، وما الكيفية التي يفعل بها ذلك؟ وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم أن كثيرا من الصراعات الدائرة على الساحة السياسية حاليا ليست متعلقة بمسألة الوطنية أو الانحياز للثورة من عدمه، ولكنها متعلقة بالأساس بمقدار القوة والنفوذ التي تتمتع بها مؤسسات العهد القديم في مواجهة أوضاع ومؤسسات ما بعد الثورة، ومدى إمكانية تخلي هذه المؤسسات عن قدر من سلطتها ونفوذها في إطار ترتيبات بناء مصر الجديدة. ومن ثم فإن البحث عن الطرف الأكثر وطنية بحث في غير محله، خاصة إذا ما كانت الأطراف المتصارعة تدير صراعها وفقا لمعادلة السلطة والنفوذ وليس وفقا لمعادلة حب الوطن. ومما يندرج في هذا الإطار الصراع الدائر بين مؤسسة القضاء من جهة والمؤسسة التشريعية التي يعبر عنها في هذه المرحلة مجلس الشورى من جهة أخرى. فهذا الصراع هو في جوهره صراع سياسي، وليس اختبارا للوطنية أو للولاء أو غير ذلك من العناوين التي ينفق الكثير من المصريين وقتهم في النقاش حولها. فهناك امتيازات استثنائية تتمتع بها مؤسسة القضاء، ومن المهم بالنسبة للقائمين عليها أن تظل بعيدة عن مساس أي جهة أخرى، ومن هذا المنطلق كانت الحساسية المفرطة التي تعامل من خلالها بعض القضاة والقانونيين مع مشروع القانون الذي اقترحه بعض نواب المجلس التشريعي لتنظيم السلطة القضائية وخفض سن الإحالة إلى المعاش. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أن مؤسسة القضاء ليست بدعا في سلوك هذا المسلك، فقد سبقتها المؤسسة العسكرية، التي كانت حريصة هي الأخرى على أن تؤكد امتيازاتها وأن تحمي ما تتمتع به من سلطات، وذلك عندما استشعرت خطرا يتهدد هذه الامتيازات بمناسبة إقرار الترتيبات الدستورية الجديدة. ويتذكر الجميع الوثيقة الشهيرة التي عرفت حينها بوثيقة المبادئ فوق الدستورية، أو "وثيقة السلمي" والتي استهدفت تأكيد الصلاحيات الاستثنائية للعسكريين، وتضمنت عدم خضوع ميزانيتهم للمراقبة، وإبقاؤهم خارج نطاق المساءلة التشريعية، بل وجعلت منهم أوصياء على الشرعية التي من المفترض أن الشعب هو المنوط به حمايتها والحفاظ عليها. مؤسسة القضاء تعيد نفس الكرة هذه الأيام، فتتشبث بما في يديها من سلطات وصلاحيات، وترفض أن تقترب منها يد التشريع، حتى لو ترتب على ذلك إهدار مبدأ الفصل بين السلطات، وإهدار دولة القانون التي يفترض أن القضاة قائمون على حمايتها، وكأن هذه المؤسسات تؤكد أنها وإن كانت قد قبلت الإطاحة بالرئيس السابق إلا أنها ليست مستعدة لإسقاط نظامه بالكامل، وأنها وإن كانت قد أشرفت على الانتخابات التي جاءت بمجلس الشورى إلا أنها ليست مستعدة أن تسلم إلى نوابه مقاليد التشريع وفقا لقواعد ودستور النظام الجديد. فهي تفضل أن تعمل وفق قواعد وأساليب النظام القديم التي كانت تضمن لها التمتع بهذه الامتيازات الاستثنائية، عن أن تندمج مع روح الثورة وتعمل وفق مقتضياتها التي تسلبها جزءا كبيرا مما في أيديها من مكاسب. وأيا ما يكون تفسير حالة الصدام الدائرة بين مؤسسات العهد القديم ومؤسسات العهد الجديد فإن الأمر المسلم به هو أن مرحلة جديدة من المواجهات قد بدأت، وأن هذه المواجهة ضرورية لوضع الثورة على مسارها الصحيح، ولكن تختلف القوى السياسية حول الأسلوب الأمثل لإدارة هذه المواجهة؛ فالبعض يؤمن بأن حسم المواجهة يجب أن يتم عبر اللجوء إلى التظاهر والاحتجاج الشعبيين، فيما يرى آخرون أن حسم المواجهة يتحقق باستمرار التأكيد على مبدأ فصل السلطات، واحترام كل سلطة للسلطات الأخرى، فالقضاة المحتجون عليهم أن يتذكروا أن مجلس الشورى الحالي سلطة ممثلة للشعب المصري، وأنه بهذه الحيثية له الحق في أن يقر من التشريعات ما يعبر به عن إرادة الجماهير التي انتخبته. ويبقى حسم الخيار الأمثل مرتبط بتصور الأطراف المختلفة لكيفية حل التناقض بين الحفاظ على الاستقرار الذي يمكن من استكمال بناء الدولة، وبين مواجهة مؤسسات ورموز العهد القديم مع ما يترتب على ذلك من اضطراب قد لا يكون المجتمع المصري في الوضع الذي يتيح له تحمله، والحل الآني للمعادلتين ليس بالأمر اليسير خاصة أن مرفق العدالة مثله مثل مرفق الأمن لا يحتمل التوقف الكامل، ولذا فإن الأزمة الحالية معه ينبغي أن تدار بالحكمة اللازمة التي تضمن ألا يتعطل هذا المرفق، كما تضمن ألا تستمر الأوضاع على ما كانت عليه طوال العقود الماضية، حينما كانت مؤسسة القضاء تبدو محصنة ضد النقد والتمحيص ومن ثم ضد الإصلاح. الأزمة الحالية ليست إذنا قانونية صرفة كما هي ليست ثورية صرفة، ولهذا يتعين أن تعالج على نحو احترافي يراعي الجانب السياسي لا الجوانب العاطفية المرتبطة بشعارات استقلال وشموخ مؤسسة معينة أو شعارات الحسم والتطهير الفوري من جانب آخر.