03 أكتوبر 2025
تسجيلعالم ما بعد الرأسمالية أصبح يتشكل نتيجة للسياسات الحكومية والدولية، خاصة فيما بعد الأزمة المالية، بعد تهاوي النظام الشيوعي بعد انهيار جدار برلين. أتت الأزمة المالية لتنهي الهيمنة والنفوذ الرأسمالي في العالم، وتدفع بحاجة ماسة لتغير جذري في المؤسسات العالمية، من الأمم المتحدة إلى صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات، وقلبت المفاهيم، فبعد أن كان الغرب وأمريكا يحاضرون للعالم عن أهمية ابتعاد الدول عن آلية السوق وعمل الاقتصاد انكفأوا وصاروا يبشرون بأهمية تدخل الدولة في الاقتصاد وحماية مؤسسات الدولة والاقتصاد. بل أصروا على أن تتدخل الدول، حتى الأجنبية، لتشتري الأصول الغربية لدعم الاقتصاد العالمي بعد أن كانت تسن القوانين لمنع دول الخليج وآسيا من شراء أصول الشركات الغربية. يا له من ارتداد طال كل شيء حتى المفاهيم والمواقف. فلم تعد سيناريوهات الغرب المعدة مسبقا صالحة. ولذلك أعيدت صياغة الجمل وألغيت المفردات المعتادة والتقليدية وحلت بدلها مفردات نقيضة. وسعى الغرب بحميمية لإقناع الشرق وآسيا على الإقبال على شراء كل شيء، وأن جلب السيولة للاقتصادات الغربية هو عمل ينقذ العالم من كارثة اقتصادية، كل هذا يظهر لأي مدى اختلفت المفاهيم وتحولت المواقف وتمت مراجعة الأهداف والمحرمات، فالغرب في السنوات الماضية اتبع سياسة الضرورات تبيح المحظورات. هذا يفتح باب البحث عن نظام جديد يستلم قصب السبق من الغرب والرأسمالية ويبني عليه، قد يكون الواقع هو أهم رأسمال لما قد يجود به المستقبل. ولكن هذا لا يعني ترك الحبل على الغارب، بل لا بد من رؤية حكيمة ومتبصرة للواقع وسبر أغواره وفهم آلياته وربط فروعه، وإنشاء منظومة تكون قادرة على البناء على ميراث الماضي من نظم ومعارف ومحاولة تشكيل الرؤى لخلق نظام اقتصادي تنموي جديد. في هذا النظام تجب الإجابة عن دور القطاع الخاص ودور الدولة وكيف يمكن بناء نظام يخدم الأمة ولكن من منظور الخصوصية لكل اقتصاد وبيئته. وتكوين قطاع أعمال ببناء وتشييد مؤسساته اليوم، أمر مهم وأساسي. ومما لا شك فيه أن للدولة دورا رئيسيا فيه. ففي الوقت الحاضر حضور الدولة مهيمن على الاقتصاد. وسيظل كذلك في المستقبل المنظور، ولكن هذا لا بد أن يزيد الزخم لدفع القطاع الخاص للتسلح لما بعد نضوب الثروات الطبيعية. وسيكون دور الدولة في بناء قطاع خاص فاعل ضرورة، لما للاقتصاد الوطني من بنى لم تستقم بعد وهياكل لم تنشأ بعد. والأقدر على إنشائها هو الدولة في الوقت الحاضر. وقد دللنا على ذلك في الحديث في الأسبوع السابق، والذي قدم محاولة لحل معضلة الفراغ في بنى القطاع المالي، وكان الحل هو تفعيل دور الدولة في إدارة أصولها أو ملكيتها في أسهم الشركات الوطنية وبناء مؤسسات القطاع المالي. وذلك من خلال الشركات الحكومية والصناديق السيادية والقدرات النظامية، فالدولة هي اليوم من يملك الإمكانات والقدرات وهي القادرة على تشكيل الاقتصاد. ولكن هذا في الأمد القصير وقد يكون في المتوسط ولكن على المدى الطويل يجب إيجاد منظومة أفكار ومفاهيم تمكن الدولة والأمة من الاستمرارية في عملية التنمية على الأمد الطويل، من خلال رسم دور لقطاع الأعمال بالتناغم مع القطاع العام لخدمة الاقتصاد الوطني، لأن مصادر الثروة ناضبة وعلينا التفكير فيما بعد نضوب تلك المصادر الطبيعية. إقامة الصندوق السيادي المحلي خطوة مهمة وتجسير للوصول لإنشاء مؤسسات وطنية داعمة للتنمية المستدامة. فاقتصاد قائم على أسس قوية قادرة على الاستمرار فيما بعد عالم النفط والغاز هو المطلب والغاية. ولبلوغ ذلك لا بد من تكوين قطاع أعمال غني بمعارفه ومهاراته، مستقل عن الدولة له رؤاه وله مقدراته. ولكن اليوم ومن أجل تكوين ذلك القطاع لا غنى عن دور الدولة ممثلة في الحكومة ومؤسساتها. ومن أجل تحقيق حلم المواطن في الوصول إلى عالم المعرفة والتي هي الثروة الحقيقية، أي أن الصندوق السيادي خاصة الخارجي سيمنح الأمة فترة زمنية لا بد خلالها من تكوين بنى وهيكل حقيقية قادرة على رفد الاقتصاد بالقيمة المضافة بشكل مستقر من خلال القطاع الخاص ولا يعتمد على الآليات القديمة. بل تأسيس قطاع خاص ليكون نواة لخدمة الاقتصاد الرقمي تمهيدا لاقتصاد المعرفة ومن ثم مجتمع المعرفة. ولذلك فإن الاستثمار في التعليم وتحديثه وتطوير منظومته هو الفعل الحقيقي لتكوين صورة المستقبل. في خضم ذلك تجري المراوحة بين النظام الاقتصادي القديم ونظام يتشكل خلال الحقبة القادمة وكلما حاولنا التبصر في آليات الاقتصاد ووضع مفاهيم تخدم التنمية كلما كنا قادرين على تحقيق الاستقلال عن المفاهيم الغربية وإحلال مفاهيم تخدم المستقبل والإنسانية. ومن نظر اليوم للاقتصاد الوطني يجد أنه بدأ يتكون ويتشكل حول مفهوم الاقتصاد الرقمي وهذا مبشر بالخير. فسيكون من السهل توجيه قطاع الأعمال ناحية تكوين المهارات والمعارف المتعلقة بما بعد النفط والغاز وإعداد المجتمع لمهارات الاقتصاد الرقمي تمهيدا لاقتصاد المعرفة وثم مجتمع المعرفة.