18 سبتمبر 2025
تسجيلفي كتابه الرائع (طبائع الاستبداد) يبين عبدالرحمن الكواكبي الفرق بين المجد والتمجّد، فيقول بأن المجد هو "إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب"، وذلك ببذل "النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام، وهو أعلى مراتب المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة"، أما التمجّد فهو العكس من المجد تماماً، حيث يقول الكواكبي بصريح العبارة، أن التمجّد هو "أن يتقلد الرجل سيفاً من قبل الجبارين يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، وبعبارة أوضح هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبد الأعظم". ثم يضيف الكواكبي، وهو يوضح لك دور المتمجّدين في أي دولة تضيع فيها العدالة والحقوق، بأن المستبد أو الديكتاتور الأعظم فيها "يتخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن استقلال الدولة، والحقيقة أنها كلها لتهييج الأمة وتضليلها..". المجد إذن ليس سلعة تشتريها أو تتمنى الحصول عليها دون بذل ما يقابلها من عمل وعطاء لا يقدر بثمن، إن جئنا للحسابات والمقاييس المادية البشرية، إن ما تسعى إليه وتحلم به هو التمجّد، وبه تتحقق رغباتك الدنيوية كما تريد ولكن لحين من الدهر لا يستمر، مهما طال وتمدد. أما المجد الحقيقي فإنه يأتيك بنفسه دون أن تسعى إليه، فإنما هي مجموعة أعمال تقوم بها في سبيل الله ثم الوطن، لا تنتظر جزاءً ولا شكوراً من أحد من العالمين، سوى الله لا إله سواه، وفي تاريخنا الكثير من أولئك العظام الماجدين، دخلت أسماؤهم لائحة المجد قروناً عديدة إلى يومنا هذا، بل إلى ما شاء الله لهم أن يكون، وما ذلك إلا لعظائم أعمال وأخلصها صدرت عنهم، فلم يكونوا باحثين عن مجد أو شهرة، لكنها جاءتهم فخلدهم التاريخ. عدلت فأمنت فنمت يا عمر مقولة تاريخية شهيرة قالها رسول كسرى إلى المدينة، وقد كان مبعوثاً ليرى سيرة وأحوال خليفة المسلمين الذي بلغت شهرته الآفاق، وسمع به الشرق والغـرب، فلما رآه نائماً في المسجد وبعض آثار الغبار على وجهه، انطلقت تلك الكلمات التاريخية لتصف رجلاً لم يسع يوماً إلى شهرة وأضواء ومجد، وهو يومها بمثابة أكبر رؤساء الدول، كما اليوم زعماء أمريكا وروسيا والصين ومن على شاكلتهم، مع فارق التشبيه بالطبع. لكن قدّر الله لعمر أن يكون مشهوراً، لكن مع ذلك لم تسلبه الشهرة تلك أو الملك العظيم الذي كان تحت سيطرته، النفسية العمرية التي تربى عليها أو الطبع العمري، حيث باطنه كظاهره. ولم يسيطر عليه شعور الأنا الذي مع كل إنسان منا، بل هو من سيطر عليه وقاده إلى حيث الحق، فكانت النتيجة، موت مجيد أصابه، وجوار خير خلق الله حازه، وخلود ذكرى إلى ما شاء الله من الدهر ناله. القعقاع.. رجلُ بألف أحد كبار التابعين. كان رجلاً بألف، كما جاء عن الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يصفه، شهد المسلمون مجهوداً كبيراً وبارعاً له في إحدى المعارك الفاصلة بين المسلمين والفرس، معركة القادسية التي كان للقعقاع دوره في حسم النتيجة النهائية للمعركة، ومن يقرأ في سيرة التميمي وبراعته العسكرية وشجاعته في اليرموك والقادسية، سيفهم معنى قول أبي بكر: صوت القعقاع في الجيش، خير من ألف رجل. ولما طلب خالد بن الوليد أبابكر أن يرسل إليه المدد، أمده بالقعقاع بن عمرو التميمي فقط! فقيل لأبي بكر يومها: أتمده برجل واحد، فقال: لا يُهزم جيشٌ فيهم مثل هذا. الملك العادل نور الدين زنكي أحد من كان له الفضل بعد الله في إعداد وتجهيز صلاح الدين الأيوبي، لمهام عظيمة قادمة. فقد جاء في سيرته أنه كان شجاعاً مقداماً، يتقدم الجند وقت الهجوم، ويكون حاميهم وقت الشدة والهجوم المضاد، وقد حدث أن التقت قواته بالصليبيين في منطقة تسمى تل حارم بدمياط مصر، حيث كانوا يفوقونهم في العدد والعدة، فانفرد نور الدين تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، وتضرع قائلاً: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط - أي يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود - وواصل الدعاء: " اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً.. من هو محمود الكلب حتى يُنصر". هكذا كان الوضع متوتراً حتى رحل الإفرنج. وقيل بأن أحد العلماء المقربين من نور الدين زنكي، رأى ليلة رحيل الإفرنج في منامه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الإفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر". قام العالم من نومه مبهوتاً يبحث عن الملك، حتى وجده يصلي بالمسجد، فتعرض له فسأله عن أمره، فيقول:" أخبرته بقصة المنام وذكرتُ له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها، وألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى رحمه الله وصدق الرؤيا، فجاء الخبر بعد ذلك برحيل الإفرنج في تلك الليلة. هكذا تصلح الرعية بصلاح ولاتها وقادتها، ونور الدين زنكي والقعقاع والفاروق وأبي بكر وغيرهم كثير، نماذج من كثيرين في هذه الأمة، ممن حياتهم تستحق أن تكون دروساً وعبراً وأمثلة للاقتداء والدراسة والتأمل، بعد أن دخلوا دائرة من المجد رفيعة عالية دون سعي منهم، بل جاءهم المجد يبحث عنهم.. وعلى خطى هؤلاء نقتدي وندعو.